غسان سعود - الأخبار
سُجّلت في الساعات القليلة الماضية أربع نقاط يمكن التوقّف عندها، لارتباطها المباشر بالأحداث المقبلة:
أولاً، موقفا رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين ورئيس مجلس النواب نبيه بري من تعديل الطائف. فبعد أسابيع من الكلام عن نية مبيّتة لدى الثنائي الشيعي لإيصال الانهيار الاقتصادي والاجتماعي إلى مداه بهدف تغيير النظام، حسم طرفاه كل ما يشاع في هذا الشأن. فأكّد صفي الدين أن الحزب «لم يناقش (ضمن مؤسسته وخارجها) مسألة تعديل اتفاق الطائف»، و«في حال طُرح الموضوع، نحن آخر من نعطي رأينا في الموضوع». فيما حذّر بري من أن «مطالبة البعض بتغيير النظام تضع لبنان في مخاطر لا تُحمد عقباها». ولعل من قصدهم الرئيس بري هم دعاة التقسيم والفيدرالية الذين يجدون بين الإعلام المموّل أميركياً من يفتح الهواء لنظرياتهم، لكن لعله قصد غيرهم أيضاً. وفي الحالتين، لا شك في أن هذين الموقفين يقطعان الطريق على تحميل الثنائي كل ما يحاول البعض تحميله لهما لإثارة المخاوف الطائفية. فهما لا يريدان نقل قيادة الجيش أو حاكمية مصرف لبنان من الموارنة إلى الشيعة، ولا مقاسمة رئيس مجلس الوزراء السني الهيئات والمجالس والصناديق. وإذا كان صفي الدين تقصّد الاختصار في قوله إن الحزب لم يناقش مسألة تعديل الطائف، فإن المطّلعين على كيفية سلوك الملفات مسارها داخل الحزب يؤكدون أنه موقف معبّر جداً عن عدم وجود أي طرح جدي بهذا الشأن، لأن مناقشة الحزب في مثل هذه المواضيع تعني لجاناً وأبحاثاً ودراسات قبل أن تُوزع الخلاصات على مجلس الشورى ليشرع أعضاؤه بدورهم في «درس الملف» قبل أن يصلوا، بعد عشرات الجلسات، إلى تحديد موقف منه. وعلى هامش هذا النقاش، هناك بين المطّلعين في الحزب من يجزمون بأن تعديل الطائف بما يمس بنفوذ الطائفة السنية دونه صعوبات داخلية وإقليمية. أما المسّ بما تبقّى من نفوذ للطوائف المسيحية فغير وارد لأن لدى الحزب خشية «غريزية» من إثارة مواضيع كهذه ومراكمة الأوهام. ويلفت أحد المطّلعين في هذا السياق إلى أن تصاعد الحديث عن نفوذ حزب الله وسيطرته ومسؤوليته عن كل ما يحصل في لبنان يتزامن فعلياً مع سيطرة أميركية كاملة على المؤسسات الأمنية والإعلامية والقضائية.
ثانياً، سقوط سيناريو الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي للتجديد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة أو تعيين بديل منه، من دون احتفالية مضادة من القوى المسيحية التي أحبطت هذا المخطط بالتنسيق مع بكركي. وبالطبع، لم يكن ممكناً طيّ هذه الصفحة بهدوء لولا موقف حزب الله الذي جاء متناغماً مع قناعاته، ومن دون تنسيق مسبق مع أحد. كما أن ضبط النفس إزاء سقوطه يبين وجود رغبة سياسية شاملة بعدم توتير الأجواء أكثر أو فتح معارك جانبية يبدو الجميع (باستثناء بري وميقاتي) في غنى عنها.
ثالثاً، كلام جديد في بعض دوائر حزب الله الاستشارية عن تقدّم رئاسة مجلس الوزراء على رئاسة الجمهورية من حيث الأهمية، بعد كلام سابق عن تقدّم الرئاسة الأولى على ما عداها، نظراً إلى دور الرئيس الأساسي في التوقيع على أي تشكيلة حكومية، وكونه الناطق باسم الدولة في المحافل الخارجية، ما يبرز انعطافة أولية هادئة في إعادة التقدير، من دون أن يعني ذلك أن الحزب عدل في موقفه من ترشيح النائب السابق سليمان فرنجية، وبات يقبل اليوم البحث في مرشح آخر إذا كان ذلك من شأنه إعطاؤه دوراً أكبر في اختيار رئيس الحكومة. وبالعودة إلى نهاية النقطة الأولى (أعلاه) في ما يخص نفوذ كل من الحزب والأميركيين في البلد، هناك قناعة لدى الحزب اليوم بأنه نجح في السنوات القليلة الماضية بتعطيل الاندفاعة الأميركية، واحتواء المشاريع الأميركية عبر ردات فعل سريعة، لكنّ الانتقال من التعطيل إلى البناء ومن ردات الفعل إلى الفعل يستوجب مقاربة مختلفة لكل الاستحقاقات.
رابعاً، عودة (بعض) الحرارة إلى علاقة التيار والحزب عبر اتصالات مباشرة، بعيداً عن الرسائل المشفّرة ورسائل الوتساب، وهو أمر إيجابي، خصوصاً إذا كان لدى الطرفين ما يكفي من الجرأة والحكمة لتطوير العلاقة بمعزل عن اختلافهما في الاستحقاق الرئاسي. ولا شك في أن موقف الحزب من تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان أو التجديد لسلامة يسمح بإعادة فتح باب النقاش مع التيار حول الحكومة والشراكة اللتين مثّلتا الشرارة الأولى لانفجار تفاهمهما. مع التأكيد على أن الحوار المستجد لا يزال في بداياته، ولم يتبيّن بعد ما إذا كانت آفاقه تتجاوز الاستحقاق الرئاسي أو تقف عنده. كما أن الحزب لم يقطع الأمل بعد من إقناع باسيل بفرنجية، ليحاولا معاً إقناع الرئيس ميشال عون. ورغم «استحالة» هذا الأمر، يقارب الحزب رفض عون وباسيل بهدوء أكبر، من دون انفعال عاطفي أو شعور بالخذلان. ولا شك في أن عودة الحوار مقدّمة أكثر من ضرورية للطرفين في حال نجحت المساعي الفرنسية في تخريج أي حوار، بعدما أثبتت النقاشات السياسية الجانبية في الشهور القليلة الماضية أن ما يمكن للتيار أن يتقاطع عليه مع القوى السياسية المختلفة، بعيداً عن المقاومة وحماية لبنان ومصالحه، قد يكون أكثر بكثير مما يتقاطع عليه مع الحزب. وكان الأسبوع الماضي قد شهد زيارة باسيل للندن ولقاءه كل من يتعاطى في الإدارة البريطانية في ملفات الشرق الأوسط، ولا يمكن لعاقل أن يتخيل أن اجتماعات كهذه يمكن أن تحصل مع «مُعاقَب أميركياً» من دون «أبّة باط» أميركية واضحة.
ارتباط هذه النقاط بعضها ببعض قد لا يكون ضرورياً أو مباشراً، لكن لا بد من وصلها جميعها بتذبذب الموقف الفرنسي بعد ما تعرّضت له المبادرة الفرنسية من لكمات، مقابل عمل قطري حثيث مع افتراض الدوحة أن كل تعثر للمبادرة الفرنسية هو بمثابة تقدم لمبادرتها الخاصة بقائد الجيش جوزف عون. وإذا كان القطريون قد توقّفوا عن طرح الأمر مع رئيس التيار الوطني الحر بعد رفضه الواضح، إلا أن قطر تصرفت مع رفض باسيل لترشيح فرنجية وللمبادرة الفرنسية باعتبارهما نصراً كبيراً لها حتى لو لم يتبعه باسيل بأي موقف إيجابي تجاه ترشيح عون. وبعد موقف باسيل، بنى القطريون على الموقف السعودي لعرقلة اندفاعة النائب وليد جنبلاط والكتلة السنية الوسطية خلف المبادرة الفرنسية. وإذا كان البعض يربط الدور الفرنسي بمباركة أميركية حتمية فإن أحداً لا يمكنه تخيّل القطريين يلعبون هذا الدور من دون إشراف أميركي مباشر، ما يقود إلى القول إن الأميركيين يطلقون مسارين متوازيين تحول السعودية دون وصول أيّ منهما إلى غايته حتى إشعار آخر. ولا شك هنا أن الأميركيين يتلطّون خلف المجتمع المدني مرة وهذه المؤسسة الدينية أو تلك مرة، والفرنسيين مرة والقطريين مرة والسعوديين مرة، لكن ذلك لا يعني أبداً أنهم يقبلون تجيير نفوذهم في البلد لأحد أو الاستغناء عنه أو تعويضه في أي مكان آخر، فهم كما تؤكد جميع المصادر الدبلوماسية الجدية: يراكمون هنا استثماراً كبيراً وطويل الأمد، ليس لديهم ما يوازيه في المنطقة كلها. وهم يؤخّرون التسوية اليوم، ويطلقون مسارات متعددة مقفلة الآفاق، لمعرفتهم أن موازين القوى كما هي اليوم لا تسمح بإنتاج التسوية المناسبة في نظرهم، حيث لا يمكنهم بأي شكل الحفاظ على ما حقّقوه من مكتسبات في القضاء والأمن والمال والاقتصاد و«الخارجية» والسلطة التنفيذية.