الشاعر هنري زغيب
عن "الـمُنجِد في اللغة": كَمَّ يَكُمُّ: ستَرَ وغَطَّى بالكِمام. والكِمام هو ما يُكَمُّ به الفم، وقد يُؤَنَّث إِلى كِمامة (على وزن عِناية ووِقاية). وتَدرُج العامَّة على لفظها كَمَّامة لأَنها تَكُمُّ الفَم طوعًا أَو قسرًا.
وبين الطَوع والقَسْر ظهَرت الكِمامة منذ ظهور الكورونا ضرورةً أُولى للعِناية وللوِقاية من رَشِّ الرذاذ على المتلقِّي أَو تَلَقِّي الرذاذ من الآخَر المقابل أَو المحاذي.
وكما تَدرُج كلُّ موضةٍ فترةً فتصبحُ دُرْجةً تَشيع أَوانًا، أَو موجةً تعلو مُوَقَّتًا، شاعت الكِمامة، ويُسمُّونها "الماسْك" اصطلاحًا، فراح كلٌّ يغني على ماسْكاه، فإِذا بالكِمامة تَشيع بين المواطنين في تفاوُتٍ بيِّنٍ بين متجاوبٍ إِيجابيٍّ آمِنٍ مُؤَمِّنٍ سواه، ومُتَفلِّتٍ سلبيٍّ أَرعنَ مُسبِّبٍ أَذًى للسوى.
في السلبيّ ما نراه في تجمُّعات الشوارع من اكتظاظٍ مُؤْذٍ كلَّ مَن في الشوارع لخطورة التقاط الجرثومة مِن النَفَس والرَذاذ، وخصوصًا مِن مواطنين لامسؤُولين يختلطون بالآخرين حاملين، جهلًا أَو إِدراكًا، سُمَّ الموت يَنشرونه حولهم فيتَعمَّم الوباء ويزداد فرضُ الحجْر وتدبيرُ التعبئة العامة.
وفي الإِيجابيّ ما نراه من ابتكارات في تصاميم الكِمامة بين زرقاءَ أَو سوداءَ أَو ملوَّنةٍ أَو حاملةٍ شعاراتٍ وكلماتٍ وصُورًا ورموزًا بأَشكال كثيرةٍ، منها الطريفُ ومنها الجميلُ، ومنها ما صدَر عن دُور الأَزياء بجعْل الكِمامة تتناسب مع تصميمِ فستان السيِّدة أَو ربطةِ عُنْق الرجل: مُدَلَّاةً عموديًّا على صدره أَو فراشةً أُفُقيةً عند ياقة القميص.
ويبدو أَن الدُرْجة دَرَجت من كمَّامة الشعب إِلى صمَّامة الحكْم فبادرَ الجهابذةُ الحكَّام لا إِلى متابعة كَمِّ الوُجوه اتِّقاءً أَيَّ عدوى بل إِلى كمِّ الأَفواه اتقاءً أَيَّ بلوى تُصيبهم من صحافيٍّ غاضبٍ أَو إِعلاميٍّ جريْء، أَو صوتٍ يَصدحُ بالحرية أَو مواطنٍ يطالب بحقوقه أَو ينادي بطرْد اليوضاسيين من هيكل الحكْم، أَو يقول بمحاسبة المحاسيب المحظيِّين المحسوبين الفاسدين المتغلغلين في شرايين الدولة يمتصُّون دماءَها وخيرات المواطنين فيها، أَو مَن يجاهر بنظامٍ يتحوَّلُ علمانيًّا مدنيًّا تتساوى فيه حقوقُ الشعب وواجباتُه فيستقيم الوضع وينجو الوطن من الاحتضار.
هكذا إِذًا: بين كَـمِّ الوجوه كِمَاميًّا، وكَـمِّ الأَفواه كَمَّاميًّا، يتهيَّأُ الشعبُ دومًا للانقضاض على الكراسي يُطيح مَن عليها مِن عقودٍ تناسلَت عقودًا، ومِن عهودٍ تفاسدَت عهودًا، ليُظْهِرَ أَنَّ مِقصَلَةَ الشعب ليست لقطْع الرؤُوس وحسْب، بل لقطْع الأَيدي التي حملت إِلى الحكم تلك الرُؤُوسَ الفاسدة.