فرار
فرار

خاص - Sunday, May 31, 2020 10:56:00 AM

النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس

من حقّي.. ومن حقّكم عليّ، أن أفرّ معكم من دوّامات الأحزان والقلق المتوالدة، ولو كان ذلك بالقفز من فوق سور الكورونا، أو التسلل من خلف أبواب المصارف المغلقة، أو التملّص من رقابة حرّاس الاونيسكو والمعمعة النيابية، تماماً كما كنت أفعل مع نفر من زملائي عندما نرتكب فعل مغافلة الناظر وبوّاب المدرسة، وقد جمعنا من بعضنا بعض الفرنكات لنجلس في قهوة على شاطىء البحر؛ يومذاك كانت النقود قليلة ولكنها حقيقية، أما الآن فأرقام الدولارات الأميركية الافتراضية تطأطىء رأسها خجلاً أمام صدق الفرنكات و فعاليتها.
ما دعاني إلى هذا أنني تذكّرت قداسة المرحوم البابا شنودة في لقاء مع جيزيل خوري إذ سألته عمّا كان يفعل في سنوات نفيه إلى وادي النطرون بعدما عزله أنور السادات عن البابوية، فأجابها إن الله أنعم عليه بالقدرة على فتح كوة من النور في داخله عندما يدلهمّ الظلام، فيرى ما لا يُرى، تجرأت جيزيل وقالت: ولكن هذا فعل الخفافيش..؟ فأجابها بابتسامته الساحرة وبديهته الحاضرة ، "خفافيش أحسن مما فيش".

أردتُ إذن أن أروح عنكم وعني وأنقل لكم فحوى حديث طلي استغرق 40 دقيقة كنت أمارس خلالها رياضة المشي مع صديقي المثقف والفنان والانسان محمد مشنوق، اذ كنا نتبادل المعايدة فروى لي من ذكرياته، أنه في أحد أيام الصيف، وكان في السادسة عشرة من العمر، ينزوي في ركن شرفة منزل العائلة الصيفي في عاليه حيث والده المرحوم عبدالله المشنوق يستقبل أهل الفكر والفن والسياسة، وقد نصب حواسه الست لالتقاط أي حرف مما يدور بين أهل النخبة، ليخزنه بعد ذلك في ذاكرة لا تشيخ؛ يقول: كان الفنان العظيم محمد عبدالوهاب من حضور ذلك المجلس مع المطربة ذات الصوت الرائع زكيه حمدان وهي صاحبة أغنية سليمى، والله يا لبنان ما أجملك، وقد سمح لها عبدالوهاب لشدّة إعجابه بصوتها أن تسجل بصوتها قصيدة الكرنك الخالدة؛ ومن الحضور أيضاً الملحن وعازف الكمان الاستاذ خالد أبو النصر، والاستاذ ميشال خياط وهو واحد من اساتذة الموسيقا المرموقين في عصره. دخل على الحضور نزار قباني فما كاد يستقر به المقام حتى بادره عبد الوهاب: ما جديدك؟ فأخرج ورقة من جيبه ليقرأ عليهم آخر قصائده، فاستنكر الموسيقار الأمر، وسأله مستغرباً ألا تحفظ قصائدك عن ظهر قلب؟ أجاب نزار معتذراً أنه كتبها يوم أمس ويخشى أن تخونه الذاكرة. قال:
لماذا تخليت عني
وأنت تعلم أني
أحبك أكثر مني
لماذا؟..
فقاطعه عبدالوهاب: هذا ليس مطلع قصيدة بل هو مطلع أغنية ملحنة.. واستمر نزار:
لماذا
منحت لقلبي الهواء
فلمّا أضاء
بحب كعرض السماء
ذهبت بركب المساء
لماذا...
إلى أن يقول:
تعود السنونو إلى سقفنا
وينمو البنفسج في حوضنا
وَتُرْقَصُ في الضيعة الميجنا
وتضحك كل الدنا مع الصيف، الا أنا ..
لماذا؟
هنا اعترض عبد الوهاب مجدداً وسأله، لماذا تُجهّل الفاعل يا نزار؟ لم لا تقول: وَتَرقص في ضيعتنا الميجنا، بدلاً من تُرقص؟ فاستجاب نزار، ثم ألحّ الجمع على عبد الوهاب أن يلحّن القصيدة للتو، فطلب إلى زكيه حمدان أن تبدأ العزف على عودها، وراح يغني المقاطع تباعاً، وهي تعيد من بعده، فيما انصرف كل من انطون زاباتا خبير البيانوهات المعروف وميشال خياط وخالد أبو النصر إلى كتابة النوتات، فلما وصلت القصيدة إلى نهايتها قال عبد الوهاب لخالد أبو النصر بلهجته المصرية، خدها يا خالد وولّفها..
وبالفعل وضعها الاستاذ أبو النصر في إطارها الموسيقى الكامل وغنّتها زكية حمدان، ونُسِبَ اللحن الى الذي ولفه أي خالد أبو النصر، فغضب نزار الى أن عَوّض عليه موسيقار الأجيال بأن لحن له "أيظنّ" .. وكرّت سبحة العلاقة بعد ذلك في اعمال فنية خالدة.

أردت أن أشارككم حلاوة حديث محمد المشنوق وأن أحثّه في الوقت عينه على بث ذكرياته الرائعة إلى الأجيال فهو نبع من الفن والثقافة والأنس والصداقة. وإلى من يريد الاستماع إلى أغنية "لماذا تخلّيت عني"، فإنه يستطيع الدخول إلى موقع غوغل او يوتيوب فيجدها كاملة بصوت زكية حمدان الرائع.
(رابط الاغنية في ختام المقال)

إلى اللقاء في الأحد القادم، حيث يستمر الهروب من المدرسة كي أحدّثكم عن مناسبة قصيدة "سلوا كؤوس الطلا" من شعر أمير الشعراء أحمد شوقي، وأختم الهروب بما قرأته عن لقاء بين أبي العلاء والشريف المرتضى.

للاستماع الى أغنية "لماذا تخلّيت عنّي":

https://www.youtube.com/watch?v=bHXwuppp76E

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني