نوال نصر - نداء الوطن
خبزي وزيتي عمارة بيتي... مقولة يرددها المزارعون- وبفخرٍ- وهم "ينغلون" في عرس الزيت والزيتون السنوي. الرهبان أيضاً يسرحون بين أشجار الزيتون، ينكشون الأرض، وملؤهم الثقة بغصن الزيتون، رمز السلام، وبأن الشجرة لا تقع من أول ضربة فأس. لكن، ماذا لو اشتدّت ضربات الفؤوس وشعر الرهبان بأن الأرض تهتز تحت بساتين الزيتون وتُقتلع من الجذور؟ في بلدة بصرما الكورانية، في أراضي دير سيدة النجاة المقاوم أباً عن جدّ، ذعر من مشروع قد يقضي على الأخضر، على 3500 شجرة زيتون، ضمن أملاك الدير، من أجل إنشاء مدينة صناعية. والمتهم هو: طوني سليمان فرنجية. فماذا يحصل بالفعل هناك؟ إلى بصرما سرّ...
طالما تردد اسم بصرما الكورانية في فصول الحرب اللبنانية، حيث كان رهبان دير سيدة النجاة من بين المقاومين الأوائل. نحتاج الى قطع مسافة 81 كيلومتراً من بيروت لنصل اليها. إنها قرية زاخرة بالكنائس والأديرة، وبالزيتون الذي يزيدها سحراً، وبطبيعة هادئة نموذجية.
رنّ هاتفنا. بصرما في خطر. بصرما، التي يشتق اسمها من السريانية ومعناه: المكان المهجور، قد تتحول الى قرية لا تشبه نفسها. محيط دير سيدة النجاة في بصرما في خطر. الذعر واضح في الإتصال. فلنتحقق مما يحصل. فلنقصد بصرما وجيران بصرما ومعارف بصرما. وصلنا الى محيط دير سيدة النجاة في بصرما الذي تأسس في العام 1877، وخصصت له املاك دير مار أنطونيوس قزحيا - بصرما. ولعب إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية وفي خضمّ كل الأزمات دوراً فحمى من لجأوا إليه جوعاً أو قهراً أو ظلماً أو عَوَزاً. وها هو اليوم- كما يتردد- في خطر.
دير سيدة النجاة في بصرما هو الوحيد الماروني في منطقة الكورة. كان لا بُدّ من وجوده ليكون الى جانب الموارنة في تلك الجغرافيا التي يطغى فيها الوجود الأرثوذكسي. رئيس الدير حاليا هو الأب طوني حدشيتي، أما المشكلة التي تثير اليوم الهلع، فبدأت رحاها قبل ستة أعوام، وتحديداً في العام 2017، أيام رئيس الدير الأب باخوس طنوس. فماذا حصل في حينها وماذا استجدّ اليوم؟
على أراضي الدير!
صوت خائف أجاب: «إنهم يريدون بناء مدينة صناعية في أراضي الدير، ويستخدمون أذونات كنسيّة، على أساس أن الأرض سليخ، بور، بينما هي مليئة بأشجارالزيتون. أكثر من 3500 شجرة زيتون كانت مزروعة على أرض تزيد مساحتها عن 170,000 متر مربع». مهلاً قليلاً. فلنتحدث بتأنٍّ أكثر: من يملك الإذن بتحويل أرض الدير الى مدينة صناعية؟ ومن أعطى الإذن بذلك؟ يتكرر اسم النائب طوني سليمان فرنجية في الموضوع. فهو من يريد إنشاء مدينة صناعية في قسم كبير من حرش الزيتون. ويتردد أن رئيس الدير السابق الأب باخوس طنوس هو من ساعده في الحصول على الإذن. ما دام الأمر كذلك فما مسؤولية فرنجية؟ لماذا القول أن ورقة الإيجار مزورة؟ في الدير، يتكلمون عن أن الأب باخوس كان يتمنى تأسيس مشروع يفتح الفرص أمام الشباب وهو كان مع مشروع مدينة صناعية لكن بشروط أخرى. ما حصل، أن النائب فرنجية، توجه، عبر جمعية Work Smart Association، الى روما متجاوزاً الإتفاق مع رئيس الدير في بصرما. وبالتالي، لا يمكن الحديث مطلقاً عن إتفاق بين الدير وفرنجية».
تأسست الجمعية في العام 2016 ونالت العلم والخبر في 15 آذار 2017 أيام وزير الداخلية نهاد المشنوق. ومن اهدافها: توفير فرص العمل للشباب ودعم المشاريع وتطويرها وتأمين مستلزماتها وتنمية القرى والبلدات... وأول مشروع لها، منذ 2017، كان هذا المشروع الذي يستمر موضع نزاع بين طرفين.
في بعض الخصومات يحلو الكلام في الخفاء - كما في الدير كذلك في زغرتا - فماذا تقول مصادر النائب طوني فرنجية؟: الهمّ الأهم هو خلق فرص عمل، وقد جرى التفاهم مع البلدية والدير من أجل إنشاء منطقة صناعية صغرى بدون تلوث، تضم صناعات غذائية، ماء الزهر، ماء الورد، وسواهما» وتستطرد المصادر بالقول «قد يكون هناك من يزعجه المشروع، وهو يريد أن يضلل الآخرين من أجل إلغاء متابعة المشروع. نحن سنمضي به ولدينا إتفاق- كونترا- مع الدير بهذا الخصوص، لكننا لم نقم باقتلاع أي شجرة، وكل ما نُشر عكس ذلك كذب. كل ما قمنا به هو دقّ (حفر) بئر مياه ولدينا ترخيص به مئة في المئة.
نقل أشجار لا قطعها
نسأل المسؤول عن المشروع في جمعية Work Smart Association المهندس جورج دحدح عن تفاصيل أكثر فيجيب «نحن وقعنا العقد من جهتنا، وقد عملنا للحصول على ترخيص بتغيير تصنيف الأرض من زراعية الى صناعية. نريد إنشاء منطقة صناعية نموذجية. وأي شخص، من أولاد المنطقة، يريد تأسيس مشروع برأسمال 150 ألف دولار على سبيل المثال، نقدم له الأرض والبنية التحتية الجاهزة، على أن يستثمر كامل المبلغ في الإنتاج، فيربح الوقت ويخفض من قيمة المال. المدينة لن تضم جبالات ولا ماكينات تصدر أصواتاً وضجيجاً. كل ما نريد إنجازه هو مشروع نموذجي يُشجع صغار المستثمرين ويفتح آفاقا أمام الشباب طالبي العمل. أما مدة استئجار الأرض فهي 27 عاماً».
نعود لنسأل مصادر فرنجية عن مصير أشجار الزيتون في البقعة الهادئة فتجيب: «نحن لم نقطع أي شجرة، لا بل نحن أبلغنا الآباء عن استعدادنا، على نفقتنا، نقل أشجار الزيتون الى بقعة أخرى لتعيش في أرض جديدة. لكن، ما حصل أنهم تعاملوا بقساوة مع الشجر واقتطعوا أشجاراً ويلمحون الى أننا من فعلنا ذلك».
نكاد نشعر أن الصراع دائر بين الكهنة وآل فرنجية. نحاول أن نستبعد هكذا فكرة. ونتابع البحث عن أجوبة.
نرفع كل هذا الكلام الى الآباء في دير سيدة النجاة ونسمع إجابات «لا صحة لكثير من المعلومات التي أعطيت. هناك من أتوا من قِبلهم و»علموا» الأشجار التي يريدون إقتلاعها بلون أزرق. ونقلوا، بحسب علمنا، 130 شجرة، إما ماتت أو هي تنازع الآن. أشجار الزيتون لا تعيش بعد نقلها، كما أن الأشجار التي ستصمد قد لا يُكتب لها أن تعيش بسبب الغبار الذي سينتج جراء منطقة صناعية». نسأل أحد الكهنة عن الكلام بأنهم هم، الكهنة، من فعلوا ذلك وليس الجمعية التي استثمرت المشروع فيجيب «هناك من عمد الى «قصقصة» الجذوع بناء على طلب من يستثمرون في المشروع» ويستطرد «هم يتكلمون عن أنهم يريدون إنشاء مشاريع تؤمن عملاً للشباب اللبناني لكن خبرتنا تؤكد أن أصحاب الصناعات الموجودة سابقاً لا يُشغلون إلا السوريين. كما أن أصحاب الصناعات الخفيفة في قرى الشمال يعملون في أقبية منازلهم ولا حاجة لديهم للإنتقال الى منطقة صناعية مهما قيل أنها نموذجية».
مدينة أفلاطونية
نعود لنسأل الكهنة: ماذا عن مسؤوليتكم أنتم في حدوث الإتفاق المبدئي في 2017 بين رئيس الدير السابق الأب باخوس طنوس والنائب طوني فرنجية؟ لماذا قبل به من الأساس؟ يجيب أحد الكهنة «نصّ الإتفاق المبدئي على إنشاء صناعات خفيفة واعتقدنا أن الأرض الموجودة تكفي لها لكن قيامهم بشق طريق، أشبه بأوتوستراد، في المكان، لم يوحِ لنا أبداً أن الصناعات ستبقى خفيفة. من يضمن لنا ذلك في بلد نعرف أين تبدأ المشاريع فيه ولا نعرف أين تنتهي. المدينة الأفلاطونية التي يعدوننا بها غير موجودة. في مقلب آخر، بدأ الإتفاق مع رئيس الدير السابق لكنهم عادوا واستكملوه مع روما ولم يرجعوا في تفاصيله الى رئيس الدير».
لكن، هل تعقد عادة إتفاقات كهذه مع روما؟ الإتفاقات الطويلة الأمد، كما هذا الإتفاق الذي تصل مدته الى 27 سنة، قد يعرض أمام المراجع المختصة في روما. وقد يكون حظّ صاحب المشروع جيداً وصوته مسموعاً لدى كهنة في روما فيدفع إتفاقه في ذاك الإتجاه. قد وألف قد...
وانطلقت الأشغال
الإتفاق الكامل لم يوقع بعد. لكن الأشغال يبدو أنها انطلقت. وإن كانت مصادر الجمعية المستثمرة تقول: سنستهل الأعمال فور تحسن الطقس في لبنان. ها نحن في الربيع. أشجار زيتون كثيرة باتت يباساً. الدير الذي كان يخفق كما القلب في أحد أكبر أحراش الزيتون في الكورة يعاني من قلق كبير. مصادر طوني فرنجية تؤكد أن الهم الأهم من المشروع ليس إلا تأمين فرص عمل للشباب. الكنيسة تجيب: نعم، نحن نريد تشغيل شبابنا لكن المدن الصناعية لا يعمل فيها إلا السوريون، والزيتون قد يكون مصدر رزق إذا اهتموا به. فلماذا لم يحافظوا على الزيتون ولم يُنشئوا إذا ارادوا مدينة صناعية في أرض سليخ؟ سؤال نقلناه الى الجمعية التي اختارت هذه الأرض فأتى جوابها: للمدن الصناعية مقومات وأرض الدير هذه تملكها. ن
ضع نقطة في آخر سطر مع يقيننا بأن الموضوع لم ينته بل بدأ.