النقيب السابق للمحامين في طرابلس الوزير السابق رشيد درباس
استشهد في هذا المقال تحت عنوان "الدير القريب" أقصوصة من "أحاديث القرية" لمارون عبود أسماها "وعظة ابونا اسطفان" عن "هَلّون" العجوز التسعينية التي تسكن في غرفة من البيت الواسع الذي يسكن فيه أيضاً خوري ضيعة "فغال" أبونا بطرس، ورغم هذا فلن تطمئن هلّون نفسًا إلى آخرتها إلا إذا ألقى الأبونا اسطفان وعظته أمامها، فما زالت تلحّ على جارها الخوري إلى ان وصل البونا المنشود بعد انتهاء زيارته الرعوية إلى القرى المجاورة فلما دخل عليها راح ينشدها أبياتاً:
حِصاني كانَ دَلّالَ الـمـَنايا
فَخاضَ غُبارَها وَشَرى وَباعا
وَسَيفي كانَ في الهَيجا طَبيباً
يُداوي رَأسَ مَن يَشكو الصُداعا
وَلَو أَرسَلتُ رُمحي مَع جَبانٍ
لَكانَ بِهَيبَتي يَلقى السِباعا
إذا التنين هرول من امامي
يظن البحر باعًا أو ذراعا
ولقد استحسنت أن أنقل إليكم طرفة شيخ الأدب المعلّم مارون دلالة على ذكاء القرية التي تعطيك العبرة العميقة من أبسط الإشارات، إذ هو يدخل إلى أعماق النفس البشرية المضطربة الشكاكة ليستنبط من قلقها الباحث عن اليقين، أنّ هيلانة التي تعدّ العدّة للهجعة الأخيرة تريد أن تتبارك بسيرة مار جرجس الذي يركب الحصان ويطعن التنين برمحه دون أن تلتفت إلى قول البونا بطرس، بأنّ هذه الأبيات لعنترة بن شداد فالمهمّ بالنسبة لها ما وقع في نفسها من أن مار جرجس رمز الخير، انتصر على التنين الشرير، سواء كان صاحب الأبيات عنترة أو النابغة الذبياني، ضرب خوري الضيعة كفًا بكف، وصاح بصوت ملؤه الأسى، "الدير القريب ما بيشفي"، إذ كانت "هلون" تستطيع أن تدعو جارها على فنجان قهوة يروي لها ما حفظه من كتاب السنكسار عن أخبار القديسين، دون أن تكابد لهفة الانتظار، ولكن الاطمئنان لا يحرزه المرء هونًا من الدير القريب، فكلما بعد الدير أو الخوري كان الأجر والثواب أعلى.
مازلنا نبحث عن رئيس في غياهب "سنكسار" ملفّق، فكل ما نسمعه من دعاية سياسية، قرأنا ما هو أهم منه في ديوان الحماسة، ولفتنا إليه نزار قباني عندما كتب عن الحرب التي ندخلها بمنطق الخطابة والربابة والعنتريات التي ما قتلت ذبابة.
ولو رضيت "هلّون" بنصيحة البونا بطرس، من ديره القريب، لذهب النواب وانتخبوا رئيسًا لا يشكل نصرًا لفريق أو هزيمة لآخر، فالأوضاع تتطلب شخصًا رصينًا حصيفًا متواضعًا يبني جسورًا للداخل، وينقي المناخ مع الخارج، ويرمم المكسور ويُدَعِّم الآيل للسقوط، مارونيًا لا يمثل طائفته إلا بمقدار ما يمثل اللبنانيين كلهم، يجهر سلفًا بأنه ليس الحاكم المطلق، وليس الرئيس الملفق، تقتصر مهمته في هذه المرحلة، على استعادة الدولة من حافة الهاوية، وهذا أمر بمقدور الأطراف التوافق عليه بشرط إقرارهم ان الرئيس الجديد لن يكون تجديدًا لحقبة سابقة أو عنوانًا لانتصار فئوي كاذب.
كم هو محزن ان يتحكّم بنا عنترة من قبره ونحن من قال فينا مارون عبود:
"أظنّ أنّ للأبجدية التي أبصرت النور على شاطئنا عملًا عظيمًا في العقلية اللبنانية."
"لقد فصلنا الدهر المستهزىء ببنيه عن ذلك الزمان الحافل بالأمجاد ولكننا مشينا في ظهور جدودنا نحلم بكل عصر بالقراءة والكتابة."
"لقد كان شعار اللبناني المثقف دواة يشكها في زناره، سيان في ذلك من يلبس غنبازًا كالشيخ ناصيف البازجي، أو من يلبس شروالًا كالمعلّم بطرس البستاني."
"كانت الكتابة منذ قرن -أي القرن التاسع عشر- مفخرة يتباهى من يحسنها، فيمشي الشدياق كمشية ابن الرومي يغربل فيها."
لقد كانت الدواة النحاسية مفخرة الرجال الذين انجبوا أروع المؤلفات في كل باب ومطلب، أولًا تكون الجامعات في القرن الواحد والعشرين حاضنة صالحة لإنجاب عشرات المرشحين الرؤساء؟؟
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا