جاء في "الراي" الكويتية:
تحوّلت بيوت اللبنانيين إلى ما يشبه «الأقفاص الأمنية» أو العلب المحروسة... منازل بإجراءاتِ تَحَوُّطٍ كثيرة، ومبانٍ بتدابير احترازية مبتكَرة، وشوارع أقرب ما تكون إلى غيتواتٍ محمية بالعيون المفتوحة.
... بوابات حديد، أضواء كاشفة، أسلحة فردية، كاميرات مراقبة، عصي كهربائية... كلها أدواتٌ للحماية «البَيْتِية» التي لجأتْ إليها العائلاتُ اللبنانية خشيةَ تَعاظُمِ حال الفلتان.
فمع الانهيار المالي - الاقتصادي المطرد ونتائجه المعيشية - الاجتماعية المدمّرة، ازدادت مَظاهرُ الاضطرابِ في لبنان وانفلشتْ ظواهرُ السرقة واللصوصية والنشل والخطف مقابل فدية. غير أنه رغم الفوضى والجوع والبطالة وتَبَخُّر قيمة الأجور، نجح اللبنانيون نسبياً في الحد من «الأثمان» التي تطول أمنهم اليومي وممتلكاتهم وحرمة بيوتهم وأرزاقهم وفي حمايتها من غول التسيُّب الذي لابد من أن يكبر مع تلاشي المؤسسات ودويّ وقع الانهيار.
في نشرتها الشهرية، أوردت الدولية للمعلومات تقريراً تشير فيه إلى أن الشّهر الأخير من 2022 شهد استمراراً في تَحَسُّن المؤشّرات الأمنيّة، إذ جاءت حصيلة العام المنصرم إيجابية مقارنة بـ 2021. إذ تراجعتْ جرائم سرقة السيارات بنسبة 23.4 في المئة، وجرائم السرقة بنسبة 19.7 في المئة، وجرائم القتل بنسبة 13.5 في المئة، مع ارتفاعٍ ملحوظ في نسبة جرائم الخطف.
مؤشرٌ لافت وغريب ويثير التساؤل، في الوقت عيْنه، عن كيف لبلادٍ يلتهمها أكبرُ انهيارٍ في العالم أن تشهد استقراراً أمنياً وتَراجُعاً في نسبة الجرائم؟
لا شك في أن القوى الأمنية ورغم تعبها تعمل بصمتٍ وهي شددتْ إجراءاتها بعد موجةِ الفلتان التي سادت في بداية الأزمة وقد أثمرت جهودها، لكن الصحيح أيضاً أن اللبنانيين باتوا أكثر حذراً وتشدُّداً في يومياتهم وباتوا يعتمدون «الحماية الشخصية»، ليس بمفهومها الحزبي بل على الصعيد الفردي والعائلي وعلى مستوى الأحياء السكنية والمباني.
وتكفي جولةٌ على الناس لاستطلاع «إجراءاتهم الاحترازية» وتدابير تَحَوُّطِهم ومعرفة آرائهم، لادراك إلى أي مدى وصل بهم الحذر واضطرارهم للجوء إلى وسائل الحماية الذاتية.
كلب شارد و... مسدس
لا تجد إحدى الصيدلانيات حرَجاً في القول إنها تحمل في حقيبة يدها مسدساً صغيراً وكذلك يفعل زوجها ولا سيما حين يخرجان مساءً، فقد سبق أن تعرّضت صيدليتها لمحاولة سرقة لم تنقذها منها إلا صدفةُ وجود كلب شارد قرب باب الصيدلية. ومنذ ذلك الحين تَسَلَّحَتْ بمسدس وباتت تُبْقيه إلى جانبها في الصيدلية وكلما خرجتْ من بيتها.
مثلها كثر باتوا يلجأون إلى الأسلحة الفردية أو حتى بنادق الصيد يتركونها في متناول اليد. «يا قاتل يا مقتول»، يقول فريد أحد سكان منطقة جل الديب الساحلية «لن أدع أحداً يقتحم بيتي، بندقية الصيد دائماً ملقّمة وجاهزة ولن أتوانى عن استعمالها، وقد أثبتتُ ذلك حين استيقظتُ ذات ليلة لأجد أحدهم يحاول سرقة سيارةٍ متوقفة تجاه بنايتنا، أطلقتُ عليه النار فترك عدّته وهرب، لكن ليس قبل أن يطلق النار بدوره لتصيب الرصاصة أحد جدران بيتي. ومنذ تلك الليلة أقوم مع جيراني بدوراتِ حراسة ليلية من على شرفات منازلنا».
اللبنانيون على... سلاحهم
الأسلحةُ الفردية ظاهرةٌ إشاعة منذ ما قبل الحرب الأهلية. وقد نقلت وكالة «أسوشيتد برس» عن موقع «مراقبة الأسلحة الصغيرة» السويسري الناشط في مجال رصد ومكافحة انتشار الأسلحة الفردية على مستوى العالم، أن ثمة 31.9 قطعة سلاح فردي لكل 100 شخص في لبنان في أواخر 2021، ما يعني أن الرقم الإجمالي لقطع السلاح 1.927 مليون قطعة لعدد السكان الذي يقدَّر بنحو 6.769 مليون نسمة.
ولا تنفي التقارير المرتكزة إلى أقوال بعض تجار السلاح أن بيع السلاح الفردي إلى ازدياد مع ارتفاع وتيرة المخاطر الأمنية ومخاوف الناس.
إيليان التي تملك مع زوجها ميني ماركت في أحد الأحياء السكنية تقول لـ «الراي» إنها «لا تؤمن بالسلاح الفردي خصوصاً أن لديها أولاداً صغار في البيت. ولذا قامت بتركيب كاميرا موصولة إلى هاتفها وهاتف زوجها لمراقبة محلّهما ليلاً، والكاميرا الحرارية تطلق إنذاراً صوتياً على الهاتف في حال وجود حركة داخل المحل أو حوله».
بهذا باتت العائلة مُطْمَئنةً إلى تَحَكُّمها بمسار الأمور وقدرتها على القيام بما يلزم في حال الشك بوجود محاولة سرقة.
لكن ليس الجميع قادرين على تركيب كاميرات مراقبة، يقول ميشال توما، وهو متخصص يعمل على تركيب هذا النوع من الكاميرات، إذ إنها مكلفة ولا سيما إذا كانت من النوع المتصل بالإنترنت وتحتاج إلى وجود تيار كهربائي في شكل متواصل واتصالٍ مستمر بالإنترنت، وتصل تكلفتها إلى 300 دولار وما فوق مع إمداداتها.
كاميرات وأجهزة إنذار
في المقابل، بعض العائلات الميسورة لجأت إلى أنظمة الحماية الإلكترونية المتقدمة التي تعتمد على تركيب أجهزة إنذار متطورة تنبئ بحدوث أي خرق أمني داخل البيت أو أي محاولات لاقتحامه من الخارج مكونة من كاميرات وأجهزة استشعار متصلة بهاتف صاحب البيت أو بمراكز مراقبة متخصصة، تطلق إنذاراً عند حدوث أي طارئ ولا سيما إذا كان أصحاب البيت خارجه بحيث ينطلق زمور قوي عند حدوث خرق.
ولكن مَن من المواطنيين مستعدّ اليوم لتركيب إحدى هذه الأنظمة التي قد تصل تكلفتها إلى 3000 دولار؟ ثمة طرق أسهل بات سكان لبنان يركّزون عليها، وفق توما، ومنها صيانة الفيديوفون والإنترفون في البنايات، وذلك لضمان عدم فتح الأبواب لأي غريب، فكل غريب اليوم مشتبَه فيه، وكذلك على صيانة بوابات البنايات وأبواب الكاراجات الكهربائية للتأكد من إحكام إقفالها وقدرتها على مقاومة محاولات فتْحها بالقوة.
حتى أن السكان يتكافلون في ما بينهم لتأمين مصدر كهرباء مستمرّ للبوابات للحرص على إبقائها موصدة طوال الوقت مع تدعيمها إذا احتاج الأمر بمزيد من الأقفال وحتى الدعائم الحديدية.
الديلفري والبوابات... الحديد
«لا نفتح البوابة مطلقاً لأحد ولا سيما عمال الديلفري. القادم إلينا يجب أن يعلمنا بقدومه هاتفياً لنفتح له الباب. ونصرّ على إبقاء البوابة موصدة بالمفتاح لمزيد من الحذر» تقول إحدى السيدات.
في الواقع مَن يتجول بين البنايات في مختلف المناطق يجد لافتةً واحدة ملصقة على بواباته: «يرجى التأكد من إغلاق البوابة لأسباب أمنية»... أما أبواب المنازل فغالبيتها مدعم بأقفال متطورة متينة تصعّب عملية كسر الباب أو خلعه.
لكن هذا التحصين الخارجي للمنازل يرافقه تحصينٌ من نوع آخَر داخل البيوت حيث ان اللبنانيين الذين هجَروا المصارف وباتوا يحتفظون بأموالهم نقداً داخل البيت، باتوا يعيشون حالة من الذعر خوفاً على هذه الأموال المتبقية لهم من السرقة.
كان الحلّ أمامهم بدايةً شراء الخزنات الحديد التي راج سوقها مع بداية الأزمة ليعود وينحسر اليوم، كما يقول موظف في متجر لبيع الخزنات الحديدة. فحتى الخزنات لم تعد آمنة وقد بات العديدون يعملون على استئجار صندوق أمانات في المصرف لإيداع أموالهم النقدية ومجوهراتهم فيه لتكون بأمان بعيداً عن متناول صغار اللصوص.
علاج بـ... الطاقة الشمسية
«الراي» التقت الناشطة الاجتماعية في جمعية «غدنا» غادة طنجر، التي تقوم بحلقات توعية بين سكان المناطق والأحياء لتنبيههم إلى المخاطر المحيطة بهم وسبل الحماية منها.
وتقول: «غالبية السرقات تحدث اليوم من بَرا لبرّا، كما يقال... أي لكل ما هو متواجد في الخارج. ومن هنا ضرورة حماية هذه الممتلكات والحرص على عدم وصول السارقين إليها، إما من خلال تثبيتها جيداً بالأرض وإما ربْطها بسلاسل حديد تمنع نقلها أو عبر تسليط أضواء كاشفة عليها تلجم السارق من الاقتراب منها. مشكلة انقطاع التيار الكهربائي يمكن حلها باعتماد مصابيح الإنارة التي تعمل على الطاقة الشمسية. وإذا تَضامَنَ أبناء الحي الواحد يمكنهم استبدال مصابيح الإنارة التابعة للبلدية بأخرى تعمل على الطاقة الشمسية تُبْقِي الشارع مضاءً ليلاً ولا تتركه فريسة العتمة واللصوص والاعتداءات».
وتنصح غادة الجميع بإقفال أبواب السيارة جيداً ولا سيما عند التنقل مساءً، والتلفت جيداً إلى محيط السيارة قبل الخروج منها مع محاولة ركنها بطريقة تجعل إخراجها صعباً ويحتاج إلى محاولات عدة، وكذلك يمكن تزويدها بكبسة مخبأة لمنع تشغيلها إلا من صاحبها.
كما تشير إلى مسألة مهمة، وهي مسألة نواطير البنايات ولا سيما الجدد منهم حيث إن هؤلاء يحتاجون إلى مراقبة مشدَّدة للتأكد من أمانتهم بعدما ثبت أن بعضهم يساهمون بتقصي أوضاع سكان المبنى ونقله إلى رفاقهم من عصابات السرقة.
... وبالصاعق الكهربائي
بعض اللبنانيين وجدوا الحل بتجنب الخروج من بيوتهم ليلاً تجنباً للتعرض للسرقة أو الاعتداءات. أما الشبان والشابات فيسعون جهدا لعدم استقلال السيارة ليلاً بمفردهم بل برفقة أكثر من شخص تجنباً لاستفرادهم من السارقين أو المعتدين.
«لقد زودني أبي بصاعق كهربائي، أبقيه في الجيب الخاص في باب سيارتي حتى إذا اقترب مني أي شخص مشبوه أسارع إلى صعقه»، وفق ما تؤكد نيبال. تقولها بما يشبه الثقة لكنها تعرف جيداً أن خطرالتعرض لاعتداء ليلاً دائماً موجود لكنها تحاول تناسيه.
شاب آخر يحمل رذاذ الفلفل في جيبه للغرض نفسه ولا يترك سيارته مفتوحة حتى ولو اضطر للخروج منها للحظات ولا يعطيها مطلقاً لموظفي الباركينغ لركنها حتى «لا تطير منه».
... إنه اللبناني القابع في عين مَخاطر أمنية تتعاظم مع استمرار ارتفاع «السواتر» السياسية وتَسارُع السقوط الحرّ المالي، واختار التصدّي لها بـ «أسوار» من التحوُّط... المتعدد الشكل.