إبراهيم ناصر الدين - الديار
كل الحراك الداخلي يساوي «الصفر»، وهو ليس اكثر من «تخبيص» في الوقت الضائع. هكذا كانت المعادلة قبل ايام قليلة، لكنها تدحرجت نحو الاسوأ وبات يمكن الحديث عما تحت «الصفر»، ربطا بالتطورات الخارجية التي دفعت برئيس الحزب «التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط للتعبير عن تشاؤمه من امكان احداث خرق جدي في الاستحقاق الرئاسي قبل اشهر طويلة، رابطا ذلك بانسداد الافق الداخلي الذي بات امرا واقعا، بعدما اطلع على كيفية مقاربة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل للملف، وتبين انه لا يلتقي مع اي من اطراف النزاع، ومنهم اقرب حلفائه على الحد الادنى من القواسم الشتركة. اما المعطى الخارجي فهو اشد قتامة بعدما تجاوزت الاحداث مرحلة المراوحة، وبدأت تعود الى الوراء على كل الجبهات «الساخنة» و»الباردة». وهو ما عكسه على نحو مباشر وصريح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من خلال هجومه الحاد على طهران، بعدما كان الرئيس الغربي الوحيد القادر على التواصل الايجابي مع الايرانيين.
ووفقا لمصادر مطلعة، ثمة اجماع ديبلوماسي غربي وعربي على انعدام فرص تمرير الحل اللبناني وسط «غبار» «الكباش» المحتدم في المنطقة والعالم، وهو امر يعرفه جنبلاط جيدا وسبق وصارح به رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي وافقه على «هواجسه» واتفق معه على قيادة محاولة فتح ثغرة داخلية، فانفتح على «معراب» و»ميرنا الشالوحي» فكانت النتائج سلبية، وتبين ان الوصول الى تسوية راهنا بالادوات المحلية غير متاح. اما ما يقلق «المختارة» فيبقى مسألة التخلي الفرنسي عن دور «الوسيط» المقبول من قبل كل الاطراف، ما كان يسمح بالحفاظ على نوع من الاستقرار الامني، اما اليوم فهذا الملف ومن خلال التجارب السابقة، يستخدم عادة «كصندوق» بريد لارسال الرسائل بين القوى كجزء من التفاوض الساخن، بعدما كانت باريس تحافظ على نوع من «التبريد» على الساحة اللبنانية. وهو الحد الاقصى الذي استطاع ماكرون تحقيقه بعدما اصيب بخيبة أمل سياسية اثر أجهاض مسعاه الديبلوماسي بعد زيارة بيروت مرتين، الأولى بعد انفجار مرفأ بيروت في آب 2020 والثانية بعد ذلك بشهر، عندما جمع عدد من القادة اللبنانيين حول طاولة مستديرة في مقر السفارة الفرنسية. وهو عائد من مؤتمر «بغداد 2»، مقتنعا بعدم وجود اي اهتمام جدي بالملف اللبناني، على الرغم من محاولاته الحثيثة لادراجه على هامش جدول الاعمال.
وهكذا تولى الرئيس الفرنسي قيادة فتح كافة الملفات ضد ايران دفعة واحدة، فتراجعت العلاقات بين باريس وطهران، وهي اليوم سيئة جدا، فرنسا تخوض باسم الدول الاوروبية معركة ضد ما يعتبرونه تدخلا ايرانيا في الحرب الاوكرانية. فاوروبا تعتبر ان طهران تجاوزت الخطوط الحمراء وباتت تطمح للعب دور اكبر من حجمها الاقليمي، ولهذا بات ماكرون يحمّل طهران مسؤولية فشل المفاوضات النووية، ويهدد بنقل الملف النووي إلى مجلس الأمن الدولي لإعادة فرض العقوبات الدولية عليها دون الحاجة لقرار جديد من مجلس الأمن. ويضغط ايضا لاطلاق سبعة مواطنين فرنسيين بتهمة التجسس، بينما تعتبرهم الدولة الفرنسية «رهائن» تستخدمهم طهران للمساومة...
ولم تتوقف الاخبار السلبية عند هذا الحد، فالحوار السعودي –الايراني مجمّد، وتراجع خطوات الى الوراء، وقبل التظاهرات الداخلية عقب وفاة مهسا اميني، كانت لطهران والرياض خمس جولات من المحادثات اقتربت من تحقيق استئناف العلاقات الديبلوماسية التي قطعت في 2016. وبعدما تعهّد رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني ترتيب جولة أخرى، وتطوير الامر باتجاه التوصل إلى مصالحة بين مصر وإيران، الا ان الامور تزداد تعثرا، واكثر الادلة وضوحا عدم حصول لقاء بين وزيري خارجية البلدين، على الرغم من مشاركتهما في «مؤتمر بغداد 2» في الاردن. واليوم تواجه حكومة السوداني في العراق ضغوطاً واسعة جراء الانخفاض المتواصل في أسعار صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي، الأمر الذي يضعه في موقف حرج مع ارتفاع حدة الانتقادات الشعبية والسياسية التي تصدر عن أقرب حلفائه من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، وسط مخاوف من اندلاع جولة جديدة من الاحتجاجات، بعد تهديدات من قوى مرتبطة بالتيار الصدري المعارض. وهنا قد يتحول «الوسيط» الى ضحية.
اما المؤشر الاكثر وضوحا في قتامته عدم التوصل الى تفاهمات جديدة في اليمن، الملف الاكثر اهمية في «لعبة» التوازنات في المنطقة، فبعد لقاءات مكثّفة أجراها مع قيادة حركة «أنصار الله»، غادر الوفد العُماني العاصمة صنعاء يوم الأحد، من دون إحراز أيّ تقدّم في مسار السلام، فيما برز تأكيد الحركة المتجدّد أن التهدئة الطوعية لن تطول كثيراً في حال استمرار التحالف السعودي ـ الإماراتي في رفض مطالبها، وقد رفض «انصار الله» مقترحات من الجانبَين السعودي والأميركي حول وقف إطلاق النار الكلّي، وسط مخاوف من عودة الحرب على إمدادات الطاقة، بعدما حذر «الحوثييون» من «قلب الطاولة» والعودة الى التصعيد العسكري، معتبرين ان صنعاء ليست أمام أيّ التزام في ما يتعلّق بوقف إطلاق النار، في ظل إجراءات لتشديد الحصار الاقتصادي على اليمن.. واذا انفجر الموقف في اليمن يتدخل المنطقة في جولة عنف جديدة غير مسبوقة تتجاوز حدود الاراضي اليمنية.!
لكل ما سبق، ولاسباب اخرى يطول شرحها، يعّبر جنبلاط امام زواره عن مخاوفه، لان لبنان اليوم يبدو معلقا في «الهواء» ، دون اي ضمانات بقدرته على الصمود امام «العواصف الهوجاء» في المنطقة. «فالكباش» دخل مرحلة جديدة بعد دخول اكثر من طرف على «الخط». ففي مقابل التشدد الاقليمي والغربي تجاه طهران، يتمسك الايرانيون في المقابل، بثلاثية «لا أمن لاحد دون عودة الامن الداخلي الى الاستقرار في ايران»، «لا تنازلات في الملف النووي»، و»لا مقايضة على اي ملف اقليمي او دولي بما فيها التعاون العسكري مع روسيا».
وايران باتت اليوم تنظر ايضا «بعين الريبة» الى محاولة السعودية «القوطبة» على علاقاتها بالصين، وهي علاقات استراتيجية لكنها «مكبوحة» بالعقوبات الدولية ودون رفعها قد يملاء الخليجيون الفراغ... انها حرب مفتوحة لا هوادة فيها في منطقة، وعالم يعاد رسم خرائط النفوذ فيه من جديد، ولبنان لن يكون استثناءً.