النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
علّمتني الحماسة والسياسة سرعة الارتجال، ومكنّتني منها ممارستي الطويلة للمرافعات في المحاكم، لكنني أتحاشى ارتجالَ الخطب لشدة احترامي للمستمع، عملًا بما يُروَى عن كليمنصو الخطيب المفوّه ورئيس الوزراء الفرنسي المشهور، أنه عندما انتُخب نقيبًا لمحامي باريس، اعتلى المنبر فتفقّد خطابه فلم يجده، فاستأذن الحاضرين أن يذهب ليُحْضِرَه وقال:" لأنني أحترمكم جدًّا، لا أرتجل أمامكم بل أقرأ ما هو مكتوب".
والالتزام بالكتابة يدرأ خطرَ الشططِ وتجاوزِ المقصود، لأنها تتيح فرصة إعادة النظر والتنقيح. وعلى هذا، دأبتُ في "ناقوس في أحد" منذ سنوات طويلة على أن أكتب النص بدقة وعناية وأتلوه بدقة وعناية، احترامًا لكم أيها الاصدقاء. لكنني، وللأسف، منذ عشرة أيام، أثناء حفاوتي بزوارٍ من أصدقاءَ محبّين تعثّرت بطاولة صغيرة، فانقلبتُ على ساعدي الأيمن فأحسستُ بوجعٍ من نوع فريد، أعقبته إغماءةٌ أتى إثرِها طبيبي وصديقي النافع في كل داء والحاضر عند كل بلاء، فانتقلت إلى المستشفى فإذا يدي اليمنى مصابة بكسور ثلاثة، وإذا الرابعُ كسر في القلم لأنني لم أدرب يسراي على الكتابة.
سرعان ما راودتني فكرة الاعتذار عن قرع الناقوس مدةً، ريثما يلتحم العظم المضموم بعضُه على بعضٍ في رباط وثيق يشلُّ حركتي. لكنني عدتُ وتساءلت: لماذا لا أحاول الارتجال ثمَّ الإملاءَ بدلَ الكتابة، ثمَّ الضبطَ من خلال الإعادة والتدقيق متلافياً رعونة وعشوائية ساسة هذه الايام هكذا كان، وها أنذا أخاطبكم مرتجلًا، ومعتذرًا من ضيوفي أولًا لأن لهفتي في استقبالهم، أفسدَت حسنَ ذلك الاستقبال، لأنتقل إلى القول إن المهزلة اللبنانية التي يؤديها ممثلون تافهون لم تعد تستأهل أن يُنْظَر إليها أو يُكتبَ فيها، فالأمر انكشف وانفض المشاهدون من حول التلفزة الرتيبة والمملة بعد أن فقدت الدولة هيبتها وتحوّلت إلى دولة افتراضية تخربها قوى سياسية تحاربت في الداخل والتحقت بالخارج ففقدت القدرة على حسم أي شيء.
من هذه الزاوية أقول إن كل ما نسمعه الآن هو عبارة عن حفلة ضجيج في سوق النحّاسين، حيث يطغى صوت الصنج على أصوات بعض من الذين باخت محاولاتهم العقيمة في إعادة تأجيج الغرائز ذلك إن جميع اللبنانين باتوا يعرفون حق المعرفة أنْ لا طائفةَ سلبت حقَّ أخرى، بل هناك من يسلب حق المواطن وحق المواطنة وحق الوطن، ثم يدعي أنه حقق ربحًا لطائفته، فالمسلم لا يحمل المسيحيين مسؤولية حرمان مناطقهم الخالية من المرافق لأن لبنان كله أصبح بلا مرافق، والمسلم الآن يرى أن لا خلاص له إلا باستعادة الدولة سطوتَها وسلطتَها الكاملة وخططَها الإنمائية، والمسيحي يعلم أن دوره مقدّر ومأخوذ بعين الاعتبار وأنه ملح في هذه الخلطة وخميرةٌ في تكوينها، وهو لا يملك أن يتنصل من شراكته مهما تفاقمت الحماقة واشتد الغضب .
ولا يفوتني في معاناتي من وجع الكسور وجع العدالة الذي تحوّل إلى فضيحة وجريمة ضد الانسانية، لم أجد حتى الآن من يتصدى لها، علمًا أن أهل البيت من محامين وقضاة لا يملكون ترف التراشق على نمط أن كل حزب بما لديهم فرحون.
قال البطريرك المسكوني أثيناغوراس الأول: أنا لا أخاف من أي شيء، لأن المحبة تطرد الخوف. نزعت عني الرغبة في أن أكون على حقٍّ وأن أبرر أعمالي وأتهم الآخرين. ما عدت متحجرًا في الدفاع عما هو لي. أقبل الآخر وأشاركه... إذا نزع الإنسان عنه كل شيء وتخلى عن كل ما له لينفتح فقط على الإله يجعل كل شيء جديدًا ويمحو من ذاكرته الماضي البغيض ويدخل زمنًا جديدًا حيث كل شيء ممكن.
أصدقائي، في الحياة الوطنية أيضًا، المحبةُ تطردُ الخوف وتعطي الحقوق وتحفظ الأدوار.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا