النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
أنا مدين لمارون عبود وأسلوبه الفريد بمعظم معرفتي الأدبية، فلكم شدّني بأبسط العبارات وأطرفها إلى أعماقٍ غنية، وأغدق عليَّ من درره ما لا يُحصى.
من رؤوسه دخلت إلى شعر أبي العلاء الفلسفي، وتجوّلت في معجز المتنبي، وتعرفت بالجاسوس على القاموس صاحب الساق على الساق، صقر لبنان الشدياق الذي أنقذ اللغة العربية، من التتريك في مرحلة بالغة الخطورة كما يقول، وبقي حتى آخر حياته يطالب بالعناية اللائقة بقبره القائم في الحازمية.
وربما تأثرًا به، أجدني مشدودًا إلى بساطة التعبير مع شاسع الفارق، وميالاً للاستطراد الذي برع فيه، وعبّر عنه أصدق تعبير في كتابه الجميل (من كل وادٍ عصا)، الذي سأنهج نهجه في هذه المقالة، ذلك أنني عبرت في الأسبوع الماضي بأودية عديدة، وقطفت عِصيًّا كثيرةً، فأردت أن أجمعها على تباعدِها في حديث واحد، محاولًا أن ألخّص لكم أسبوعي في السطور التالية.
حضرت أمسية شعرية لمحمد علي شمس الدين منذ عقدين من الزمن في صالون العلّامة المغفور له الدكتور علي شلق، ولفتتني واقعيته الصوفية وحداثته التراثية، فأحجمت عن قراءة شيء من نظمي أمامه احتراماً للشعر ومناخ الأمسية.
وأثناء تولِّيَّ لوزارة الشؤون الاجتماعية، تكرّم عليّ الصديقان الكبيران الدكتور عدنان السيد حسين رئيس الجامعة اللبنانية والدكتور محمد أبو علي، عميد كلية الآداب فيها، واستضافاني إلى أمسية شعرية في قاعة المحاضرات الكبرى التي فوجئت بامتلائها بالشخصيات العامة المرموقة وعلى رأسهم السيدة الجليلة رباب الصدر، فوجلت جدًّا، وخشيت أن يكون لقبي الوزاري سببًا لانكشافي الشعري، ذلك أنني على وفرة ما كتبت، أظل متأدبًا بمعايير كتاب طبقات الشعراء، لابن سلام ومعاييره الصارمة. فلما رأيت محمد علي شمس الدين بين الحضور، توجهت إليه وقلت هامسًا:" لو كنت أعلم أنك ستأتي لالتمست لنفسي عذرًا عن إحياء الأمسية.." فضحك من أعماقه وقال: جئت لأسمع شعرًا لا مرسومًا وزاريًّا.
بالأمس، ذهب محمد علي شمس الدين إلى شيرازياته، بعد قلق العمر والشعر الذي أجلسه فوق كرسي على الزبد.
أما الوادي الثاني الذي زرته بالأمس فقد ذكرني بزيارة سابقة له منذ أكثر من عشرين عامًا أيضًا، حين كنت كنقيب لمحامي طرابلس مشاركاً في اجتماعات المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب، فتوصلت إلى أنه يجب تصحيح الاسم إلى "الخلاف الدائم لصراع المحامين العرب".
يحزنني جدًّا، أن رجال الحق والعروبة يأتون إلى مكاتبهم ومؤتمراتهم، وقد حملوا سياسات دولهم ليستعرضوا بالحناجر والقبضات الملوحة في الهواء براعاتهم الغريبة على القانون وعلى الاسباب الموجبة النبيلة لإنشاء ذلك الاتحاد، لا شك أنه بون شاسع بين مصطفى البرادعي وأحمد الخواجة، وما آل إليه الحال الآن...
من المخجل جدًّا، أن يأتي أهالي نقابيين راحلين ليحضروا التكريم على هامش أعمال المؤتمر، فيرجأ الأمر إلى تاريخ لاحق لخلاف بين رئيس الاتحاد وأمينه العام، فشعرت بالخزي أمام أرملة المرحوم النقيب ريمون شديد التي توكأت على عصاها من بيروت إلى طرابلس. أقول بكل محبة: آن للاتحاد أن يخرج من خطاباته المملّة، ويعود إلى اتحاد مهني يليق به وبتاريخ مؤسسيه، دون أن تفوتني الإشادة بنقيبتنا العزيزة ماري تريز القوال ومجلس النقابة والهيئة المنظمة على حسن الإعداد والاستقبال.
ثالث الأودية أن شخصًا لا أعرفه خاطبني من أوستراليا مستجيرًا بأنّ ابنه الذي غادر لبنان في سن الثامنة، حنّ إلى بلده فعاد إليه منذ شهرين، ففوجىء بمذكرة إلقاء قبض بحقه بتهمة سرقة دراجة نارية في زمن لم تطأ فيه قدماه أرض لبنان، وكان سيء الحظ إذ إن المسألة وقعت في عز المشكلة القضائية، ولكن الله عوّض طول أسره برحابة صدور قضاة أفرجوا عنه وعني، لأني كنت أشعر نفسي أسيرًا مثله، دون سابق معرفة، أو مقدّم ومؤخر أتعاب، فجزاهم الله خيراً وفرجاً من محنتهم المتمادية.
العصا الأخيرة استعرتها من ونستون تشرشل لأهش بها على المستسلمين اليائسين، فلقد قال: إن النجاح هو أن تنتقل من فشل إلى فشل دون أن تفقد الأمل.