البير نجيم، ع.م في الامن العام، باحث، حقوقي، ومحلل سياسي - امني
في ظل الازمة الاقتصادية والمالية الراهنة، وما رافقها من حراك شعبي ومن تأزم وتشنج سياسي يؤمل (مع كثير من الشك) ان يكون تشكيل الحكومة الجديدة قد وضع حدا له، لا غرو في قراءة لجوانب هذه الازمة من الناحية المبدئية وعلى قاعدة: أيهما المتسبب بالوصول الى هذا المستنقع ان لم نقل "الانهيار"؟ أهو الواقع السياسي العقيم ام الواقع الاقتصادي المتردي؟ سيما وانه يفترض ان يكون الواقعان متلازمين بحسب ما رسا عليه المفهوم العام لقيام الدول.
من المتفق عليه بين المفكرين في عمق المعنى ان السياسة هي العلاقة بين الدولة او السلطة وبين شرائح المجتمع كافة، وبشكل آخر العلاقة بين "الحاكم والمحكوم" كما درج البعض على تسميتها في غابر الأيام. ولمزيد من الوضوح فان السياسة برأينا هي تسيير أمور أي جماعة وقيادتها بالاتجاه الصحيح كما التوفيق بين التوجهات المختلفة بما يخدم المصلحة العامة والشاملة.
اما السياسة الاقتصادية فهي بالعنوان العريض الإجراءات التي تقوم بها الدولة بهدف التأثير على السلوك الاقتصادي، فيما الاقتصاد هو الوسطية الواجبة بين الانفاق والاستهلاك وبين التقنين والتوفير.
ليس العرض أعلاه على الاطلاق من باب التنظير او الغوص في المعاني والمفردات والمصطلحات، وانما هو من باب الاستخلاص الهادف لمبدأ مفاده ان الاقتصاد السليم والاستقرار المالي والاجتماعي مرتبط ارتباطا وثيقا بمدى وجود دولة قادرة وعادلة ومتبصرة.
الدولة اذن هي الأساس والمنطلق، والسؤال إزاء ذلك هو: هل بنينا دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة منذ الاستقلال وحتى اليوم؟ وهل وضعنا في السياق نفسه القواعد المتينة والراسخة التي تقوم عليها الدول – الدول؟ ام اننا انصرفنا عند اكثر من منعطف تاريخي الى تحصين طوائفنا بدل تحصين الدولة كسقف للجميع؟ والسؤال الأخير هذا ليس تهمة او حكما جائرا اذ ان الدوافع شكلت أحيانا كثيرة ظروفا قاهرة هي بنظر البعض أسباب تخفيفية.
حفل عهد الرئيس كميل شمعون بين 1952 و1958 بالازدهار والبحبوحة، وغدت معه الدولة الناشئة محط الأنظار وقبلة الشرق والغرب، الى ان عكرته ثورة 1958 بصرف النظر عن خلفياتها وعمن كان له الأحقية خلالها، العهد ام خصومه، في ذلك الوقت. وقد تكون الظروف التي سبقت الثورة او رافقتها سببا ربما في عدم مواكبة الازدهار بعملية تحديث ومأسسة من شأنها نقل المجتمعات اللبنانية من ذهنية معينة الى أخرى اكثر التزاما بمفهوم الدولة او المواطنة الصحيحة.
وشهد عهد الرئيس فؤاد شهاب بين 1958 و1964 ورشة إصلاحية سيما عام 1959 الذي ضج باستصدار القوانين العصرية ناقلا الدولة من واقع استمرار التأثر بارث الانتداب، مضافا اليه التفكير اللبناني العشائري والطائفي في التعاطي مع مفهوم الدولة، الى واقع المراقبة والمحاسبة والتأديب في الإدارات العامة، الى جانب الإمساك بصرامة بالأمن، وهذا ما كان في حينه موضع تجاذب سياسي داخلي عميق.
لا تعني لي الشهابية شيئا خاصا، وانا لم اعاصرها بالطبع، الا ان مسؤولية البحث والتدقيق قادتني الى التوقف مليا عند ما جاء في ما سمي بـ "بيان العزوف عن الترشح لرئاسة الجمهورية" الذي أصدره الرئيس شهاب عام 1970 وتحديدا من زاوية ما حرفيته:
"ان المؤسسات السياسية اللبنانية والاصول التقليدية المتبعة في العمل السياسي لم تعد في اعتقادي تشكل اداة صالحة للنهوض بلبنان وفقا لما تفرضه السبعينات في جميع الميادين، ذلك بأن مؤسساتنا التي تجاوزتها الانظمة الحديثة في كثير من النواحي سعياً وراء فاعلية الحكم، وقوانيننا الانتخابية التي فرضتها احداث عابرة وموقتة، ونظامنا الاقتصادي الذي يسهل سوء تطبيقه قيام الاحتكارات، كل ذلك لا يفسح في المجال للقيام بعمل جدي على الصعيد الوطني.
ان الغاية من هذا العمل الجدي هي الوصول الى تركيز ديموقراطية برلمانية اصيلة صحيحة ومستقرة، والى الغاء الاحتكارات ليتوفر العيش الكريم والحياة الفضلى للبنانيين في اطار نظام اقتصادي حر سليم يتيح سبل العمل وتكافؤ الفرص للمواطنين، بحيث تتأمن للجميع الافادة من عطاء الديموقراطية الاقتصادية والاجتماعية الحق."
مؤلم جدا بالفعل ان مضمون هذا البيان لا زال صالحا ليومنا هذا، بمعنى ان لا شيء تغير منذ ذلك الحين (مع بعض الاستثناءات الطفيفة).
لن ندخل في تفصيل معالم المرحلة الممتدة من السبعينيات وحتى أواخر الثمانينيات والتي عانت فيها العهود من الأزمات الحادة وويلات الحرب، وهذا واقع وليس تبريرا. الا انه لا بد من الإشارة الى ان المراحل التي عقبت مرحلة الحرب والتي كان يفترض فيها معالجة المسببات وهي ضمنا اقتصادية واجتماعية، راحت تفسح المجال اكثر امام تقاسم الدولة وفق الذهنية نفسها التي سادت خلال الحرب، لتعمق المفاهيم العشائرية والطائفية وتعزز الابتعاد عن مفهوم الدولة – الدولة.
تفرجنا على مدى ثلاثين عاما على ما نص عليه اتفاق الطائف: "العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق"، "الانماء المتوازن للمناطق اجتماعيا واقتصاديا"، "العمل على تحقيق عدالة اجتماعية شاملة من خلال الإصلاح المالي والاقتصادي والاجتماعي".
اين نحن من ذلك؟! ونسأل بعد لماذا نحن اليوم في هذا المستنقع؟ ولماذا ثارت الناس؟
اين نحن من ذلك لنواجه "الثورة" ولنعالج دوافعها واسبابها فنحول دون استغلالها واستثمارها في هذا الاتجاه او ذاك؟
عسى ان يشكل تأليف الحكومة الجديدة فرصة فيكون النصف الثاني من العهد الحالي – طالما ان النية موجودة أصلا كما هو معلن – منعطفا اصلاحيا تاريخيا على اعقاب "ثورة 17 تشرين"، تماما كما كان عليه العهد الشهابي على اعقاب ثورة 1958، ولا شيء يمنع فيما لو سادت قناعة بان السقف اذا هبط فانما سيهبط على الجميع ولن يسلم احد. والخشية في حال العكس من ان تكون الحكومة الحالية شاهدا على الانهيار القادم لا سمح الله.