البير نجيم،ع.م في الامن العام اللبناني، حقوقي، ومحلل سياسي–امني
بات من الثابت ان جهات حزبية وسياسية عدة لحقت بالحراك الشعبي او "الثورة" انطلاقا من مصالح محددة وربما من قناعات معينة متفاوتة، وهذا ما يسميه البعض "ركوب الموجة" ما يستفز هذه الجهات التي ينبري كل منها على طريقته للدفاع عن موقفه وتبريره، فيما الحراك مستمر بشعاره "كلن يعني كلن".
واللافت منذ البداية، من بين الأحزاب المعنية بانطلاقة الحراك، هو اليسار اللبناني عامة والحزب الشيوعي اللبناني خاصة، اذ ان نظرة موضوعية للأمور من شأنها الدلالة بوضوح على ان هذا اليسار لا يزال فاعلا بشكل او بآخر، ان لم يكن على مستوى التنظيم فبالتأكيد على المستوى الفكري والعقائدي، في حين يعتقد العديد من المراقبين انه انتهى او على الأقل تراجع الى حد الانتهاء مع انتهاء المنظومة الشيوعية المتمثلة بالاتحاد السوفياتي مطلع التسعينات.
هذا التوصيف ليس اطلاقا من باب التبني، وانما هو من باب تسليط الضوء بحثيا على بعض القوى الفاعلة في الحراك ومكامن شعاراتها سيما وان بعضها وفي طليعته اليسار كان يفترض فيه، وفق الحسابات الداخلية التقليدية المعروفة على قاعدة "مع او ضد"، ان يكون الى جانب حلفاء له من أحزاب السلطة.
وعليه فان السؤال الذي يطرح بإلحاح هو التالي: هل ان موقف الشيوعيين الداعم للحراك او بالأحرى المساهم بشكل أساسي في اطلاقه نابع فقط من قناعات مبدئية؟ ام انه يهدف الى إعادة اثبات الحضور على المسرح السياسي والحزبي الداخلي؟ واستطرادا، هل هو ردة فعل حيال الحلفاء ان لم نقل تشفٍ اذا جاز القول؟ ام انه كل هذه الاعتبارات مجتمعة؟
وفي محاولة للإجابة على هذه التساؤلات يحضرني انني صادفت قبيل الانتخابات النيابية الأخيرة احد كبار الشيوعيين حيث دار حديث شارك فيه آخرون أيضا، حول نظرة الحزب للشؤون الانتخابية والأوضاع اللبنانية عامة وأسباب حرد الشيوعي وامتناعه عن المشاركة في الانتخابات، ولعل ما جاء في هذا الحديث في حينه يشكل إجابات واضحة على ما تقدم.
لم تقارب المعالجات الاقتصادية والاجتماعية حتى الآن السبل الملائمة والناجعة للحلول، بل هي تحرص عمدا على مصالح المتمولين الكبار داخل السلطة وخارجها ما ينذر بان الوضع سينفجر في وقت قريب، كما رأى المرجع الشيوعي المشار اليه.
اما عن الجسم النقابي والحركة العمالية فان الشيوعيين يرون، حسب المرجع نفسه، ان معظم أركانها قد راقت لهم السياسة والمناصب النيابية فتهافتوا على اللحاق بلوائح انتخابية معينة تحت شعارات عمالية وعن طريق استثمار هذه الشعارات ليس لمصلحة العمال ومطالبهم بل لمصالح شخصية ضيقة.
وفي سياق الحديث عن قانون الانتخابات الذي اعتبره كثيرون في حينه إنجازا هاما، راح المرجع الشيوعي يشن هجوما قاسيا على هذا القانون معتبرا انه اتى ليكرس ويعمق المفاهيم الطائفية والمذهبية على حساب مفاهيم الأحزاب اللاطائفية التي كانت تطلع الى ان يأتي بالحد الأدنى مما تؤمن به لعلمها انه من الصعوبة بمكان راهنا، ان لم يكن من المستحيل، الغاء النهج الطائفي من الواقع السياسي اللبناني.
السبيل الوحيد بمفهومه ومنظور التيار اليساري اللبناني للخلاص مما هي عليه الحياة السياسية اللبنانية هو قانون انتخابي لا طائفي على أساس "لبنان دائرة انتخابية واحدة"، والا لا فرصة لان يصبو اللبنانيون الى دولة بالمفهوم الحقيقي للدولة.
اما الأهم الأهم فهو تركيز المرجع نفسه على فكر المقاومة والحرص على اعتباره بالأساس "وليد" الحزب الشيوعي اللبناني و"ابنه المفضل"، حيث سارع الى التأكيد على مواصلة دعم خيار المقاومة مع التطلع الى ان تحمل الدولة على اكتافها مسؤولية هذا الخيار وتتحول الى دولة مقاومة كي لا تظل أحزاب المقاومة لوحدها مسؤولة عنه.
ومن هذه الزاوية أطلق المرجع عتبا كبيرا على "الحلفاء" و"الأصدقاء" لتعمدهم - برأيه - اقصاء اليسار عن اللوائح الانتخابية أينما كان وتجاهل ما يسميه الانتشار اليساري في مختلف المناطق كفكر وتيار واسع يتجاوز الحالة التنظيمية. كما خلص الى التأكيد على ان الشيوعي واليسار عامة قرر تطعيم عدد من لوائح المعارضة بمرشحين له كخيار مبدئي منطلق من الاعتبارات الآنفة الذكر.
لعل هذا المضمون يشكل إجابة من ناحية او أخرى على مجموع التساؤلات التي طرحناها كما يفسر الظهور اليساري في الحراك والشعار العريض الذي يطرحه الا وهو "تغيير النظام"، مقابل شعارات أخرى متفاوتة من حيث الشكل والمضمون، مع ادراك اليسار وغيره ضمنيا ان مسألة تغيير النظام مسألة كبيرة او مستحيلة لاعتبارات موضوعية تتعلق بطبيعة التركيبة السياسية والطائفية اللبنانية وتشبث المكونات والشرائح بخصوصياتها الامر الذي قد يكون مبررا وسط استحالة تطبيق مبدأ "قبول الآخر والتساوي معه في كل شيء على قاعدة العلمنة الشاملة للدولة".
وجد الحزب الشيوعي اللبناني ربما في مسألة الحراك او "الثورة" متنفسا لمحاولة احياء الذات واحياء النهج اليساري عامة، وهذا ما يفسر على الأرجح ظهوره بشكل استثنائي خاصة في عدد من مناطق الاطراف رافعا شعاراته بوجه الجميع، بعدما كان منذ اغتيال جورج حاوي قد فقد تماسكه الا من الناحية العقائدية او الأيديولوجية، وبعد مرحلة طويلة من الحضور على مر سنوات الاحداث اللبنانية وعلى الأخص على مستوى "المقاومة الوطنية" للاحتلال الإسرائيلي، وهو حضور ودور استند بداية الى منظمة التحرير الفلسطينية قبل اجتياح عام 1982 ليستند لاحقا وحتى مطلع الالفية الثانية الى رعاية القيادة السورية، وذلك قبل مقتل حاوي الذي كان يشكل رافعة الحزب حتى خلال غيابه الرسمي، كما كان بنظر العديد من الشيوعيين اقوى من المكتب السياسي مجتمعا رغم هذا الغياب. ومن هذه الاثناء بدأ الحزب يتفكك تنظيميا ويتعدد خطابه السياسي في ظل تعدد مرجعياته الداخلية والإقليمية، بينما استمر الاجماع في مطلق الأحوال على العداء لإسرائيل والامبريالية والعولمة وما الى ذلك.
ولا بد بشكل عام ان الشيوعي، وبصرف النظر عن أي معطى آخر، قد خسر مع انهيار الاتحاد السوفياتي سنده الدولي الأساسي لتبدأ قوى داخلية أخرى صاعدة في ذلك الوقت او موجودة قبل ذلك الحلول مكانه فكريا وتنظيميا وعلى أسس مختلفة لها قواعدها الشعبية.
الحراك اللبناني الجديد أنعش ذاكرة هذا الحزب ضد الرأسمالية فنشط مجددا على إيقاع شعار "فليسقط حكم المصرف"، ليجد نفسه في الشارع في المراحل الأولى وبشكل عفوي منسجم مع "عفوية" الحراك، اذا ما سلمنا جدلا بهذه العفوية، ولكنه في وقت لاحق، وحسب المعطيات المتداولة، واجه جدلا بين تياراته الداخلية والمناطقية حول النهج الذي يجب ان يستمر به ويسير وفقه وسط الحراك. فجماعة خالد حدادة مثلا كانت الأكثر تطرفا وجذرية في الدعوة الى "اسقاط النظام" وقطع الطرقات فيما جماعة سعد الله مزرعاني من ناحية ثانية كانت اقل تشددا لاسيما في مناطق الجنوب.
تتراوح مطالب الشيوعي حسب المعلن منها بين اسقاط النظام وبين إصلاحه، وذلك حسب مزاج مجموعاته، ليبقى القاسم المشترك بينها العداء لإسرائيل وأميركا من جهة، ورفض المصالحة مع اليمين اللبناني من جهة أخرى.
وعلى ما تقدم لا يجد المراقبون والمتتبعون للأمور ان الشيوعي قادر على انتاج سياسة مستقلة، كما يرون انه غير قادر على تطوير قاعدته الشعبية وتوحيد قواه التنظيمية، خاصة وان كوادره تتصرف على أساس مخزونها النضالي الذي مضى عليه الزمن، وتتحدث بلغة الماضي غير المؤثر في الجيل الجديد. وهذا ما يحمل على الاعتقاد بان الحراك أدى الى نتيجة عكسية بالنسبة للحزب، وبانه سيتسبب له مستقبلا بالمزيد من التفكك والانقسام، وبالتالي لن يكون له تأثير من جديد على الحالة اللبنانية رغم ظهوره اللافت في بعض المناطق وتحديدا في الجنوب.
اما بعد، وبعيدا عن هذه التفاصيل، وبالعودة الى مسألة الحراك بشكل عام، والذي يشكل اليسار اللبناني احد اركانه، فقد تعددت اتجاهاته وشعاراته يمينا ويسارا، فتراوحت بين الدعوة الى "اسقاط النظام" او "اصلاح النظام" او "التغيير الحكومي" او " القضاء على الفساد" او "وقف الهدر" او "استعادة الأموال المنهوبة" وما الى ذلك، واذا كان مكمن الضعف هو عدم توحيد المطالب بسبب تعدد الاتجاهات، وعدم ظهور قيادة موحدة للحراك بالحد الأدنى لتولي الاعلان عن المطالب والمفاوضة بشأنها عند اللزوم، فضلا عن افساح المجال اما الاستثمار الداخلي والخارجي عمدا او سهوا، فان الثابت ان الدوافع الأساسية المجردة عن أي بعد سياسي هي دوافع حقيقية ومحقة باعتراف الجميع حتى من السلطة، وانه كان من الممكن تفادي كل هذه الازمة بالانصراف منذ زمن – وليس منذ ثلاث سنوات فقط، وهذا ليس تبريرا لمرحلة الثلاث سنوات الأخيرة بل إشارة الى عدم مسؤوليتها الحصرية، من باب المصداقية في مقاربة الأمور - الى رصد نبض المجتمع والانكباب على معالجة الأوضاع بشكل جدي وصحيح وهادف، والاقرار بان هناك خللا كبيرا أصاب الجسم اللبناني سياسيا، اقتصاديا، ماليا، واجتماعيا، نتيجة أسلوب التغاضي عن وجع الطبقات الشعبية ومعاناتها وعدم الترفع عن المصالح السياسية الضيقة، وهو ما كان ممكنا رغم الانقسامات السياسية الحاصلة.
فهل تشكل فرصة تأليف الحكومة العتيدة، اذا ما نجحت هذه الخطوة، لحظة حاسمة في هذا الاتجاه قبل فوات الأوان وحصول المحظور؟