نوال نصر - نداء الوطن
فيلم لبناني واقعي طويل طويل عشناه البارحة. تابعناه بدقة. لحظة بلحظة. لكن ما يراه المرء وهو جالسٌ يتسلى بالبوشار قد لا يكون نفسه على الأرض. نزلنا الى منطقة الحمراء. سيارات تقف وتسأل عنصراً في قوى الأمن الداخلي: وين فيدرال بنك؟ يدل: «خامس مفرق على اليمين». أناس يشربون القهوة في ما تبقى من مقاهٍ في الحمراء. وكلما اقتربنا من موقع البنك إشتدّ صدى هتافات مليئة، للمرة الاولى، بكمّ من الشتائم، واتجاهها واحد: «رياض (صرامي) سلامة والمصارف ال(...).». صحافيون ومصورون أكثر بكثير من المتظاهرين. لكن متظاهراً واحداً مع مكبر للصوت قادر أن يوحي بأن الثورة آتية آتية آتية. بنك التمويل محاذٍ. قهوة «ترغلي» عند القرنة ورائحة المعسل تفوح منها قوية. وفرن عبد العزيز اشتغل البارحة «قدّ شهر».
نسوة وعاملات أجنبيات وأشخاص «حشورين» وهرّة تروح وتجيء ورجل يتكئ على عصاه يكرر السؤال: ضهر؟ ضهر؟... ووحده صوت الهاتف عبر مكبر الصوت: «يا دولة الإجرام يا منظومة الفساد يا رياض صرامي يا ولاد (الهيك وهيك)... يجعل الرجل يسكت قليلا ليعود ويسأل: ضهر؟
هتاف: هيوا السلاح هيوا... غريب. التعاطف كبير مع كل إنسان محقّ، وبسام الشيخ حسين، إبن عيترون، بدا، كما ثلاثة ملايين لبناني ولبنانية، محقاً. لكن، هناك من همس: إنتبهتم الى التوقيت؟ «هناك من يريد من خلاله تغيير التصويب عن سياسات وتحركات وتحضيرات». لا نضع في ذمتنا. نعود لنسمع: هيوا السلاح... هيوا السلاح... عن أي سلاح يهتفون؟
نعود لنتفاعل مع بسام. هو شخص «قبض» المصرف على حقّه وأقفل أبوابه في وجهه. هو صاحب حقّ. يعود صوت مكبر الصوت بهتاف: «كل يوم رح يصير في بسام على مصرف... يا مصارف الدعارة... يا ولاد الحرام... ما عنا شي نخسروا بدنا ناخد حقنا بالدم والسلاح».
الصليب الأحمر هنا. القوى الأمنية كلها هنا. أمن الدولة وقوى الأمن الداخلي والمخابرات. وجوه تائهة. وصل أربعة شباب وراحوا يصفقون ويهتفون: اعطوه مصرياتو يا حراميي... إرفع سلاحك يا بسام ضدّ كل الحكام». عاد مكبر الصوت متدخلاً: انكسر قسطل مياه نزل نواب التغيير جميعا بلد مسروق ما في نائب تغيير».
الساعة السادسة إلا ربعا صدح هتاف جديد: «يا نسوان حضروا حالكن بدنا نفوت على المصرف. عناصر القوى الامنية لا تقفوا في وجهنا. مصيركم مصيرنا. والإعاشة التي تأخذونها ذل. اتكلوا على الله يا نسوان وهيا الى الهجوم». نظرت النساء الموجودات الى بعضهن البعض وانسحبنَ، فهنّ متفرّجات لا متظاهرات.
طلب بسام محق. تعاطفنا معه. لكن شيئا ما كان يُنبئ العديدين بأن الأمور تسير مثل قصص «بيت بيوت»، تتأزم في مكان، تثير الغضب أحيانا، لكن سرعان ما يدور الضحك لشيء ما. وكأن قصص المطالبة بالحقّ أصبحت من القصص الدرامية الي تتخللها كوميديا. وكأن لا أحد بات يثق بفيلم حتى ولو بدا، في تفاصيل كثيرة، واقعياً. مراسلات التلفزة كنّ يبحثن بالسراج والفتيلة عن خبر من بعيد، من خلف الشرائط الصفر. رئيس لجنة المودعين حسن مغنية إقترب فرحنَ ينادينَ عليه: حسن... حسن... شو في جديد؟ أجاب: نفاوض. وصلت شقيقة بسام. وصل صهره. وصل للتوّ من الجنوب بعدما سمع الخبر عبر خبر سريع. صار ينادي: خلوا أختو تدخل. هم جميعاً من سكان الجناح- الأوزاعي. قال: «فليعطونا مبلغ 60 مليار ليرة (المبلغ باللبناني) وليكربجوه ويأخذوه. هو لا يخاف هو رجل من ضهر رجل. أضاف: نصف ساعة ويخرج هو أخبرنا للتو بذلك. هو لم يكن يحمل سلاحا بل وجد رشاشا فحمله وطالب بحقه. أنا كنت اسدد اقساط مركبة إستدنت ثمنها عبر البنك لكنني بعتها قطعا وحين سألوني عنها قلت لهم: إختفت السيارة»!
مسائل كثيرة غريبة عجيبة حصلت البارحة. فبسام أتى بالشحاطة يطالب بدولاراته ووجد رشاشاً جاهزاً، جنب المدير، يعرف كيف يتعامل معه. كل شيء حصل بالصدفة؟ قد يكون ذلك صدفة وقد يكون لا. لكن، في الحالتين، هو صاحب حقّ.
المتجمهرون، المفاوضون، المسموح لهم بالإقتراب من بوابة البنك كانوا يتسامرون، يبتسمون، يحيون بعضهم بعض بودٍّ. والباب يفتح ويغلق. كنا البارحة بالفعل وكأننا نتابع قصة «بيت بيوت» ألهتنا ساعات وساعات عن «بلاوي» البلد الأخرى. قناني المياه سقطت مرارا فوق رؤوسنا فرطبت أجواء آب اللهاب. السادسة والربع لمحنا شخصاً ملتحياً يرفع يده محيياً من بعيد. إنه بسام الشيخ حسين، الذي تحوّل في ساعات بطلاً. صعد في سيارة بيضاء وغادر بعدما سُلّم أهله بعض ماله: 30 أو 35 ألف دولار. إنتهى فيلم الخميس الطويل. أحدهم قال: كربجوه وأخذوه. الشبان الأربعة الذين وصلوا معاً غادروا معاً يهتفون: سكروا الطرقات والساحات. فهرع المتفرّجون للمغادرة خوفا من إقفال شوارع الحمراء. ولدان يبيعان الورود الحمراء وصلا للتوّ. وفتاة ترتدي سروالا قصيراً وعلى فخذيها تاتو: على واحد «الحياة» وعلى الثاني «جميلة» سألت: خلصوا؟ أجابها رجل مسنّ: نعم إنتهت على خير وعادت الحياة حلوة.