الشاعر هنري زغيب
بين أَغربِ ما يَسمعُ الرأْي العام العربي والأَجنبي في لبنان: عبارةُ "الرؤَساء الثلاثة". فليس على هذا الكوكب، وأَكيدًا لا في المرِّيخ ولا في زُحَل، بلدٌ يَحكمه ثلاثة رؤَساء، كلَّما اجتمعوا يطالعُنا الإِعلام بأَنه "لقاء الرؤَساء الثلاثة".
قبل أَيام، صبيحة زار الوسيط الأَميركي هوكشتاين قصر بعبدا لموضوع ترسيم الحدود البحرية، تصدَّرت الصحافةَ ومعها وسائلَ الإِعلام عبارةُ "خرج الوسيط الأَميركي بأَجواء تفاؤلية من اجتماعه بالرؤَساء الثلاثة في قصر بعبدا". ولكان الخبَرُ هان لو بقيَ في هذه الحدود، لكنَّ الإِعلام الفرنسي نقَلَ الخبر بعبارة Les 3 présidents، والإِعلام الإِنكليزي بعبارة The 3 presidents، ما سيكون حتمًا محطَّ استغراب لدى الجمهورَين الفرنكوفوني والأَنكلوفوني.
إِنه أَمرٌ غريب عجيب مُريب. إِن كان الإِعلام يعتمد الاختصار بهذه العبارة المهزلة، أَي كي لا يفصّل: رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي ورئيس الحكومة، فإِعلامُنا، من غير شر، لا يعتمد الاختصار أَبدًا حين يَجْلُدُنا بأَكثر من نصف نشرة الأَخبار ليُتْحفَ بهجتَنا بنشاط أَصحاب هذه الترويكا واستقبالاتهم وتصاريحهم وآرائهم السديدة العديدة المجيدة في إِنقاذ الوطن.
يحصل لي غالبًا أَن أُتابع نشرات الأَخبار الفرنسية في محطة Fr.2، أَو الأَميركية في محطة CNN، فلا أَجد إِلَّا نادرًا خبرًا عن الرئيس ماكرون أَو الرئيس بايدن، وليس في مطلع النشرة، وغالبًا خبرًا ذا أَهمية دُوَلية أَكثرَ منها محلية، لأَن اجتماعات الرئيسَين داخليًّا بوزرائهما أَو المسؤُولين، روتينية عادية لا حاجة أَبدًا لطَنْطَنَتها في وسائل الإِعلام. وحتى حين الخبرُ عن أَحد الرئيسَين، يذكرُه الإِعلام باسمه مجرَّدًا: إِيمانويل ماكرون أَو جو بايدن، بدون سيكسويل الأَلقاب المتناسلة في بلادنا منذ عقود من طراز "فخامة الرئيس"، و"دولة الرئيس"، و"معالي الوزير"، و"سعادة النائب". وبلغَ سيكسويل هذه الأَلقاب أيضًا نائبَ رئيس المجلس النيابي ونائبَ رئيس الحكومة فيخاطَبَان بـ"دولتَك" أَو "دولة الرئيس". وجميعها أَلقاب موروثة من زمن السلطة العثمانية عندنا: "فخامتلو" و"دولتلو" و"سعادتلو"، بقيَت مع الانتداب الفرنسي وما زالت تتوالد بصحَّة جيدة حتى اليوم.
إن ظاهرة الترويكا خرَّبَت هيبة لبنان من زمان. ومنذ عقود طويلة نتابع مهزلة عبارة "الرؤَساء الثلاثة". لكن الواقع دامغ: ليس في لبنان إِلَّا رئيس واحد هو رئيس الجمهورية، أَيًّا يكُن ومهما يكُن رأْيُنا فيه. فاللقب احترامٌ رئاسةَ الدولة قبل الشخص، لأَن الشخص بعد ولايته يصبح "الرئيس السابق" بينما رئاسة الدولة باقية ولا تصبح رئاسة سابقة.
برسم الإِعلام هذه الخاطرةُ اليوم: ليس في لبنان سوى رئيس واحد لا رئيسان ولا ثلاثة رؤَساء. فَلْيُعطَ كلٌّ لقبَه ولْيُسَمَّ به منفصلًا، ولا إِطالة في ذلك بل تجديف على مقام الرئاسة الأُولى، وتذويبٌ مقامَ رئاسة المجلس النيابي، ومقامَ رئاسة الحكومة، وكلٌّ منهما مقامٌ مستقلٌّ في ذاته. التسمية عنوانٌ حضاري. وليس ماكرون ولا بايدن دون احترام إِعلامهما الحر والمستقل. وفصلُ السلطات في الغرب تامٌّ وكامل. وعندما الرئيس الفرنسي أَو الأَميركي يجتمع برئيس حكومته ورئيس مجلس الشيوخ، فصْلُ السلطات لا يَسمح بالقول إِن اجتماعًا في الإِليزيه أَو البيت الأَبيض حصل "بين الرؤَساء الثلاثة"، لأَن في هذا القول مهزلةً مُعيبةً لا ترضاها أَيُّ دولة تحترمُ هَيْبَتَها.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا