الديار
لا رغبة للسلطة السياسية في حلّ الأزمة اللبنانية، وهذا واضح من تقاعس السلطة عن اتخاذ أي إجراء إنقاذي منذ بدء الأزمة في العام 2019. هذا القول ليس بتجنٍّ على السلطة، بل هو مبني على استنتاج من أداء هذه السلطة على مدار الأشهر الممتدّة من آب العام 2019 إلى يومنا هذا. حياة اللبناني تحوّلت من نعيم إلى جهنّم، حيث أصبحت الأسعار الملتهبة تأكل أجره الشهري في خلال عدة أيام! فبين فاتورة المولّد التي أصبحت بملايين الليرات، وسعر صفيحة البنزين الذي وصل إلى نصف مليون ليرة، وأسعار السوبرماركات التي تحرق المدخول مع عدّة ملايين شهريًا، والأقساط المدرسية التي بدأت بعض المدارس تقبضها بالدولار الأميركي... وغيرها، أصبح المواطن اللبناني يعيش حياة شبيهة بمواطني الدول الأكثر فقراً بالعالم، بعدما كان يعيش حياة شبيهة بدول أوروبا بسبب أداء سلطة سياسية فضّلت مصالحها الخاصة على مصالح شعبها وحوّلت لبنان من سويسرا الشرق إلى زيمبابوي الشرق!
مجزرة الكابيتال كونترول
إنها النسخة رقم عشرة من مشروع قانون الكابيتال كونترول والتي من المفروض أن تدرسها لجنة المال والموازنة بعد أن أقرّتها الحكومة اللبنانية في اجتماعها الأسبوع الماضي. هذه النسخة يمكن وصفها باللعنة على الاقتصاد اللبناني، إذ ستحوّله إلى اقتصاد موجّه قريب من الاقتصادات الشيوعية! فمنع خروج رؤوس الأموال بهذه الطريقة وعلى مدى عامين قابلين للتجديد، وفي غياب أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي ستقضي على أي أمل في دخول رؤوس أموال جديدة إلى لبنان وهو الذي بنى اقتصاده وقطاعه المصرفي على توافد رؤوس الأموال منذ نكبة الـ 48 وحتى العام 2019! فالبداية كانت مع الفلسطينيين بعد النكبة، إذ حوّلوا رؤوس أموالهم إلى لبنان، تلاها بعد ذلك تحويل البترو–دولار العربي إلى لبنان في الستينات وتحاويل المغتربين اللبنانيين التي بدأت في أواخر الستينات، والأموال الخليجية في تسعينات القرن الماضي وبعد عدوان تمّوز 2006... هذه التحاويل هي التي جعلت من لبنان ما كان عليه وجعلت أهله يعيشون في نعيم وراحة توازي الدول المتطوّرة حيث كان يصنّف لبنان في أعلى مصاف الدول ذات الدخل المتوسّط.
اليوم وبعد ثلاثين عاما على أداء سياسي واقتصادي مبني على المحاصصة والفساد، أصبح اللبناني في خبر كان مع عدم قدرته على شراء المواد الأولية التي يحتاج اليها ليعيش بأدنى مستويات الحياة. ومع قانون الكابيتال كونترول المطروح ومن دون اتفاق مع صندوق النقد الدولي، سيتحوّل لبنان إلى اقتصاد اشتراكي – شيوعي مع قرصنة واضحة لأموال الناس القابعة في المصارف، والنتيجة الحتمية ستكون صفر تحويلات إلى لبنان! الانكماش الذي سيحصل نتيجة هذا الأمر مرعب، وسيكون هناك مجاعة حتمية مع اعتماد لبنان في المرحلة المقبلة على المساعدات الأممية ومساعدات بعض الدول لسدّ حاجاته من الأكل والمحروقات والأدوية!
قانون الكابيتال كونترول له هدفان رئيسيان: الأول يتمثّل في أنه شرط أساسي لأي اتفاق مع صندوق النقد الدولي حيث يريد هذا الأخير ضمان أن ما سيضخه في لبنان من أموال ستبقى في لبنان ولن تتحوّل إلى حسابات في سويسرا وغيرها من البلدان، والثاني سحب الاستنسابية بحق المودعين من قبل المصارف حيث تكون المساواة بين المودعين مضمونة قانونا.
في ما يخصّ الشق الأول أي الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، هناك شبه تأكيد أن السلطة السياسية غير راغبة (أو لا تريد) بإبرام أي اتفاق مع الصندوق نظرًا إلى ما في ذلك من التزامات غير قادرة (أو غير راغبة) على تنفيذها، وعلى رأسها إصلاحات في قطاع الكهرباء، وبالتحديد تعيين الهيئة الناظمة. وبالتالي فإن قانون الكابيتال كونترول سيطبق على مدّة سنتين قابلة للتجديد من دون اتفاق مع صندوق النقد الدولي وستكون نتائجه كارثية على لبنان واللبنانيين!
في ما يخصّ الشق الثاني أي سحب الإستنسابية من قبل المصارف بحق المودعين، يكفي على الحكومة أخذ قرار على هذا الصعيد نظرًا إلى أن الكابيتال كونترول مُطبّق على الأرض من قبل المصارف، وبالتالي أي استفادة من إقراره في قانون؟ والأصعب في ذلك أن هذا الموضوع أصبح مادة تجاذب انتخابية بين القوى السياسية التي تزايد في الإعلام لتجذب الأصوات الانتخابية في حين أن هذه القوى لا تريد أو لا تستطيع القيام بما يلزم لإخراج لبنان من أزمته الحالية.
وبالتالي نستنتج أن إقرار قانون الكابيتال كونترول بصيغته الحالية ومن دون اتفاق مع صندوق النقد الدولي، سيحوّل لبنان إلى زيمبابوي الشرق مع تفشّي الفقر والجريمة وكل ذلك بسبب صراع القوى السياسية على المناصب.
الكابيتال كونترول القضائي
وكأن كل هذا لا يكفي لتأتي القرارات القضائية وتمنع تحويل الأموال إلى الخارج على أكبر 6 مصارف في لبنان. وهذا ليس دفاعًا لا من قريب ولا بعيد عن المصارف، بل دفاع عن مصلحة المواطن حيث إن مثل هذا الإجراء يؤدّي إلى ضرب الاستيراد ومصالح الناس التي تتألم في ظل أداء سياسي ظالم! هذا الكابيتال كونترول القانوني هو إجراء مخالف للدستور على شاكلة الكابيتال كونترول القانوني الذي ينوي المجلس النيابي إقراره، وحتى على الرغم من إبطاله من قبل القضاء نفسه، إلا أن حدوث مثل هذا القرار يدل على اليد السياسية الطويلة التي تريد أن تعيث الخراب في لبنان.
المفاوضات مع صندوق النقد
الفريق الحكومي الذي يفاوض صندوق النقد الدولي قادر على التوصّل إلى اتفاق في مهلة أسبوع لا أكثر، لكن العائق الأساسي يأتي من قبل القوى السياسية الممثّلة في الحكومة وفي المجلس النيابي والتي تختلق في كل مرّة مادة خلافية لتطيير أي مشروع أو اقتراح إصلاحي.
مثلًا في ملف الكهرباء الذي كلّف خزينة الدولة أكثر من 45 مليار دولار أميركي ويشكّل المطلب الإصلاحي الأول لصندوق النقد الدولي، ترفض بعض القوى السياسية تعيين هيئة ناظمة للقطاع وذلك بسبب رغبة هذه القوى الإستمرار في وضع اليد على مرفق يُعتبر من الأكثر فسادًا وهدرًا للمال العام. وللتذكير، فإن الهدف من الهيئة الناظمة في هذا القطاع أو أي قطاع اخر (مثل قطاع الإتصالات) تكمن في رفع يد السياسيين عن القطاع وبالتالي لجم صلاحيات الوزير (الوزراء) الذي وقّع على سلفات الخزينة إلى قطاع لا نعلم أي أهدر ما يوازي نصف الدين العام!
والمشكلة أبعد من ذلك، إذ ان السلفات التي مضى عليها الوزراء والحكومات المتعاقبة، كانت غير قابلة للإسترداد نظريًا وعمليًا. نظريًا لأن بعض المسؤولين يقولون ان هذه الأموال التي أخذتها مؤسسة كهرباء لبنان لم تكن سلفات بل كانت مساهمات من قبل الدولة، وبالتالي تُعفى المؤسسة من ردها إلى الخزينة العامة. بالطبع هذا الأمر غير صحيح نظرًا إلى أن قوانين الموازنات المُقرّة على مر السنين لحظت بكل وضوح عبارة «سلفة لمؤسسة كهرباء لبنان» وبالتالي أي بدعة قانونية يقومون بختراعها، هدفها عدم التدقيق في مصير هذه السلفات! أما عمليًا، فالكل يعلم أن مؤسسة فاشلة كمؤسسة كهرباء لبنان عاجزة كل العجز عن سدّ هذه السلفات نظرًا إلى غياب أي إجراءات تصحيحية داخلها وذلك من تسعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
وماذا نقول عن الإصلاحات في قطاع الإتصالات التي يعمد وزيرها إلى رفع التعرفة على اللبنانيين في الأول من حزيران المقبل حيث سيتم ضرب الفاتورة بخمسة أضعاف وهو ما سيشكّل ضربة إضافية للمواطن اللبناني القابع تحت ثقل العبء المعيشي. وبالنظر إلى الحجج التي يستخدمها الوزير أي ارتفاع أسعار المحروقات وأسعار قطع الغيار التي تُسعّر بالدولار الأميركي، نرى أن هذه الحجج تُعدّ إدانة لقطاع الإتصالات والقيمين عليه من ناحية أن مؤسسة مثل مؤسسة أوجيرو تدفع كل يوم 60 ألف دولار أميركي لشراء المازوت لتشغيل محطاتها! ألم يخطر ببال هؤلاء القيمين أن يقوموا بمشاريع تغذية لهذه المحطات من الطاقة الشمسية مثلاً؟
وماذا عن التهريب الذي يقوم به التجّار سواء إلى داخل أو خارج لبنان؟ هل تشابك المصالح القائم بينهم وبين أصحاب النفوذ سيسمح بمنع هذا التهريب؟ الجواب بالطبع كلا نظرًا إلى أن القوى السياسية التي تتغذى من الكهرباء والإتصالات والتهريب، لن تقطع باب رزقها بيدها!!
المواطن في مهبّ الريح
في هذا الوقت تستمر الأزمة الروسية – الأوكرانية بإلقاء تداعياتها على المواطن اللبناني عبر ارتفاع كبير في أسعار النفط العالمية وأسعار السلع والمواد الغذائية. وتبقى أزمة القمح والزيوت هي الأكثر بروزًا مع عجز فاضح من قبل المسؤولين عن تأمين حاجات لبنان من هذه المواد. ففي تصريح له، قال وزير الإقتصاد والتجارة ان القمح متوافر لمدة ستة أشهر وهو ما كذبته الهيئات الإقتصادية في اليوم التالي حين صرّحت أن مخزون القمح لا يكفي أكثر من عشرين يومًا! فمن يجب أن نصدّق؟ إذا إعتبرنا أن تصريح الوزير هو الصحيح، هل يمكن للوزير أن يقول لنا أين يوجد هذا القمح؟ أين يتم تخزينه؟ مع العلم أن مخزون المطاحن والأفران لا يكفي لتخزين أكثر من بضعة أسابيع؟
على كل الأحوال، المواطن اللبناني متروك لأمره وهو يواجه ما يواجهه من صعوبات وحده من دون أي تحمّل للمسؤولية من قبل الدولة. فهل يُعقل أن كل التجار أصبحوا يطلبون الدفع بالكاش وفي الوقت نفسه لا يستطيع المواطن سحب حاجاته من المصارف؟ كيف يمكن له دفع مستحقاته؟ بالفعل إنه الاستهتار الكامل بالمواطن الذي ائتمن نخبة لتدير مصالحه، فها هي تهتم بمصالحها على حساب مصالحه وتُحمّل مسؤولية هدر 104 مليار دولار دين عام لمصرف لبنان وحاكمه وتريد من المودعين دفع هذه الفاتورة!!