أنطوان فرح - الجمهورية
المواجهة بين بعض القضاء والقطاع المالي، كادت ان تتحوّل مواجهة بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية. والمفارقة في هذا المشهد ان الظالم، يسعى لكي يكون وسيطاً وحكماً بين المظلومين المتناحرين، بدلاً من ازالة أسباب الظلم، من خلال تحمُّل مسؤولية ما جرى، ومسؤولية تنظيم الانهيار بانتظار الفرج.
لم يعد ما يجري اليوم مرتبطاً بالقانون ومندرجاته. وقد لا يكون مهماً الاستفاضة في قراءة ما يجري استناداً الى معطيات تؤكد أو تنفي انّ ما يصدر من قرارات عن بعض القضاء مسيّسة، وتخدم مصالح أطراف سياسية ورغباتها، ام لا. بل ان الخطير والمهم في ما يجري، انه سيؤدّي الى تعميق مأساة اللبنانيين، ويدفع البلد نحو «التصحّر» المالي، بحيث يصبح مشهد اليمن السعيد حاضراً في الأذهان. والمقصود هنا بلد بلا مصارف، وبلا ايرادات، وممتنع عن دفع ديونه، وعاجز عن تنظيم الانهيار، وينفق ما تبقّى من رصيد مالي، وسيادته منقوصة ودولته غير موجودة عملياً. وبذلك نكون قد اجتزنا المسافة التي تفصلنا عن الدولة الفاشلة، التي تنتظر المساعدات لخفض منسوب الجوع. ولولا الجناح الاغترابي المميز، لأمكَن الجزم بأن المشهد الشعبي بعد فترة قصيرة سيكون شبيهاً بمشهد المجتمعات التي كان اللبناني يتعرّف إليها فقط من خلال الاخبار والشاشات، وكان يعتبر انها في مكان بعيد جداً عنه، قد يعنيه التعاطف معها، لكن لا يعنيه أن يقلق من التعرّض لمثلها في يوم من الأيام.
بصرف النظر عن التسييس في بعض الاجراءات القضائية، وهو أمر معروف وليس جديداً على اللبنانيين، فإنّ المسؤول عن الشواذات والمظالم والاجراءات التي قد تقضي على اي أمل بالوقوف مجددا في المدى المنظور، هي الدولة اللبنانية بكل مكوناتها، وبما فيها السلطتين التشريعية والتنفيذية. وتضمّ اللائحة المتآمرين الراغبين عن سابق تصور وتصميم في الوصول الى هذا الدرك، والاغبياء الطامعين بالسلطة ويعتقدون انهم يمارسون حقهم السياسي المشروع. وما تحاول الدولة ان تقوم به اليوم، كان مطلوبا منها منذ تشرين 2019، لكنها تكتفي منذ ذلك التاريخ بالوقوف متفرجة.
ما هي المخاطر التي نتّجه اليها، في حال استمر الوضع على فوضويته، والتي يختلط فيها السياسي بالقضائي بالمصالح الانتخابية، والمصالح الرئاسية وربما بمخططات القضاء على هوية البلد بالكامل؟
اولاً - إنهيار اضافي في القطاع المالي برمته، بما يعني الانتقال من دولة لديها على الأقل بنية تحتية جاهزة لاعادة احياء القطاع المصرفي في اطار خطة للانقاذ الشامل، الى دولة فاشلة دمّرت بنيتها المالية من أساساتها، وصارت في مكان آخر لا علاقة له بلبنان الذي نعرفه.
ثانياً - اكتساب صفة الدولة الفاشلة بحيث يصبح التعاطي معنا من منطلق الوصاية اذا سمحت الظروف بذلك، او الاهمال وتركنا لمصيرنا، خصوصا اذا «نجحنا» في اغلاق كل الطرق التي تسمح باستخراج الغاز والنفط من مياهنا.
ثالثاً - تسريع إفراغ البلد من كل مقدراته وكادراته البشرية، خصوصا ان الانهيار الاضافي الذي نتّجه اليه قد يقود الى غياب ما تبقى من خدمات خجولة لا تزال قائمة، وتسمح لبعض الكادرات بالعمل «اون لاين»، لإدخال العملات الصعبة والمساهمة في الصمود النسبي للوضع الاقتصادي والمعيشي.
ولا بد من طرح السؤال التالي: اذا كانت «الدولة» هي المسؤولة الرئيسية عن الانهيار وعن الافلاس الذي وصل اليه البلد وأعلنته الحكومة رسمياً في آذار 2020، فمن المسؤول عن السقوط الحر الذي يتعرض له اللبنانيون منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، وهو مستمر؟ من سيتحمّل مسؤولية هدر حوالى 20 مليار دولار من العملات في مصرف لبنان منذ بداية الأزمة؟ ومن سنسأل غداً عن مصير الـ13,5 مليار دولار (الاحتياطي الالزامي + حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد) عندما تنضب ويبدأ البحث عن بديل لمواصلة الهدر، والأرجح ان الدور سيكون على احتياطي الذهب؟
الحكومة التي اجتمعت وشعر رئيسها بالغضب لغياب أركان السلطة القضائية عن حضور الاجتماع، أوليست هي المسؤولة عن دعم الليرة اليوم من دون خطة واضحة لتبرير الأسباب وتحديد الأهداف، وقد نفاجأ غداً بأنه لم يبق في خزائن المركزي ما يسدّ رمق الجائعين؟