الشاعر هنري زغيب
تابعتُ قبل يومين رئيسَ فرنسا إِيمانويل ماكرون يتقدَّم من شعبه ببيانِ تَرَشُّحه لولايةٍ خَمسيةٍ جديدة. جاء نَصُّه، كما نَبرتُهُ المعتادة، واثقَ النظرةِ المباشِرة، سهلَ المتن المكتوب، نَسَجَ به في 1020 كلمة برنامجه الرئاسي قبل 38 يومًا من الجولة الانتخابية الأُولى، بالرغم من الجهد الهرقلي في معالجة شؤُون فرنسا، ومتابعة نُظرائه الأُوروبيين الذين كلَّفوه تَدَبُّر ما يجري في الحرب الروسية الأُوكرانية.
واضحًا كان رئيسُ فرنسا في بيانه. لم يتظلَّم. لم يَشْكُ. لم يتَّهِمْ. لم يوجِّه رسائلَ مبطَّنَةً أَو سافرة. تعالى على صغائر المسائل وعَنعَنات السياسيين، ورسَمَ برنامجًا واضحًا حدَّد فيه ما لم يُتِمَّه في الخمسية الأُولى، وشرَحَ كيف سيُتِمُّهُ في الخمسية التالية إِذا منحَه شعبُهُ ثقةَ الرئاسة من جديد.
في الزراعة والبيئة تحدَّث رئيس فرنسا. في الطب والصناعة والتربية. شحَنَ شعبه بالعنفوان الوطني، لا الديني ولا الطائفي ولا المناطقي. قال الرئيس: "واجَهْنا الأَزماتِ معًا بكرامةٍ وأُخُوةٍ وتضامن". وقال الرئيس: "لم نواجِه صعوباتِنا بالانكفاء أَو بالحنين إِلى ما كُنَّا فيه، بل بتواضعٍ وتَفَكُّرٍ في حالتنا اليوم، وكيف نَصقُلُها معًا لِغدٍ أَفضل". وقال الرئيس: "رهانُنا أَن نُغْني فرنسا أَطفالنا لا أَن نُغَنّي فرنسا طفولتنا". وقال الرئيس: "أَنا مُرشَّحٌ كي أُواصلَ معكم تهيئةَ فرنسا لأَولادنا وأَحفادنا، وأُواصل بكم الاستثمارَ في التجدُّدِ والبحثِ عمَّا يُبقي فرنسا طليعةً في جميع القطاعات، وعمَّا يُبقي الاستحقاقية ضمانةَ كلِّ فرنسي" وقال الرئيس: "المواطنيةُ ليست انتظارَ الحقوق من الدولة بل هي التزامٌ بتأْدية الواجبات حتى تُقَدِّمَ الدولةُ الحقوق. فاحترامُ الدستور والقوانين والنُظُم ليسَ وُجهةَ نظَر ولا موضوعَ نقاش".
بهذا وبالكثير سواه حدَّث رئيسُ فرنسا شعبَه ببرنامج حُكْم، متقدِّمًا من شعبه أَن يقْتَبِلَه رئيسًا لولايةٍ جديدةٍ يشاؤُها، كما قال، رغبةَ المشاركة الكبرى في هذه المغامرة الجَماعية الجَميلة العظيمة التي اسمُها فرنسا". وختم الرئيسُ باعتزازٍ ساطع: "معًا معًا، قادرون أَن نُحَوِّلَ كلَّ صعوبةٍ في بلادنا نقطةَ انطلاقٍ جديدةً لعهْد فرنسي جديد".
بهذه الثقة في شعبه، تَحدَّث هذا المرشَّح إِلى شعبه. لم يتحدَّثْ عن تَحالفات. لم يَعِدْ بتحصيل حقوق فئةٍ من شعبه. لم يتوسَّلْ برامجَ تلفزيونيةً يتنافس فيها مع مرشَّحٍ آخَر ويتناطحُ معه بصفاقة الديوك الغبيَّة. لم يُطْلق تصاريحَ تهشِّم المرشَّحين الآخَرين. لم يَدَع مكتبَه الإِعلامي يُرسل بياناتٍ ساذجةً إِلى الصحافة والإِعلام. لم يوعزْ إِلى صحافيين وإِعلاميين يطبِّلون له بتسطير تصاريحَ وأَخبارٍ ترتدُّ عند الناس هزليةً كاريكاتورية.
بل هي النبرةُ الوُثْقى في الخطاب السياسي. وُثْقى لا لأَنها تدَّعي القوةَ الزعاماتية الفضفاضة وتُوَقْوِقُ بالأَكثرية الشعبية الوهمية، بل هي وُثْقى لأَنها من رجُلٍ يُوحي بالثقة، برجولةِ الثقة، بصلابةِ الثقة. فالحكمُ ثقةٌ فعليَّة وليس ثقةً لفظيَّة.
علامةُ الرئيس، حين يخاطبُ شعبَه، أَن يتواضعَ أَمام شعبه، ويتجنَّبَ كلَّ فوقيةٍ منه أَو من حاشيته.
منفردًا يتوجَّه المرشَّح إِلى كلِّ فردٍ من شعبه، فلا ينفَح شعبه بالأَلقاب والطوباويات، بل يَمُدُّهُ عَمَليًّا بما يُؤَمِّن له رغيفَ الخبز وقسطَ المدرسة. عندها يطمئِنُّ الشعبُ أَنَّ يومَ الانتخاب سيكون فعلًا نقطةَ انطلاقٍ جديدةً لعهدٍ جديد، كما قال قبل يومين مرشَّحٌ سبَّاقٌ اسمه: إِيمانويل ماكرون.