النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
في محاولة للخروج بكم في هذه المقالة إلى مناخ غير حزين، عدت إلى سيّد الأدب والظرف أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، ورحت أقلّب في كتاب البخلاء بحثاً عن طرائف تصلح للاستشهاد بها في هذا الجو الكئيب، فوقع نظري على حوار بين الراوي وصديقه عبدالله، يقول فيه الأول للثاني:
يقال عنك يا عبدالله إنك بخيل فأجاب: لا أعدمني الله هذا الاسم، قلت كيف؟ قال: لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال، فسلم إليَّ المال وادعُني بأي اسم شئت، ولا يقال فلان سخي إلا وقد جمع الاسمُ الحمدَ والمالَ، واسم البخل يجمع المال والذم، وقد اخترت أخسَّهما.
وأضاف إن كلمة بخيل تثبيت لإقامة المال في مِلكه، وكلمة سخي تفيد عن خروج المال، واسم البخيل فيه حفظ وذم، واسم السخي فيه تضييع وحمد، وأنا أفضل الذم على الحمد حتى لا يشمَت بي من كان يحسُدني.
ومن طرائف البخلاء أيضًا الحديث عن "أهل مرو" إذ يقول الراوي: لم أرَ الديك قط إلا وهو لاقط، يأخذ الحبة بمنقاره، ثم يلفِظها قدام الدجاجة، إلا دِيَكَةَ مرو، فإني رأيتها تسلب الدجاج ما في منقارها من الحب.
وأضاف، فعلمت أن البخل شيء في طبع البلاد ، وفي جواهر الماء، فمن ثَمَّ عَمَّ جميع حيوانهم.
وإذا كان أبو عثمان الجاحظ، طيب الله آثاره، قد استفاض في شرح أحوال البخلاء بأموالهم، فإن طبع البخيل لا يتوقف عند حدود المال، لأنه ضنين بجاهه ونصحه وعلمه وفعله، بل هو شامت بأهله إذا مسَّهم ضرٌّ أو وقعت عليهم مصيبة. ولا أنكر أنني أعجبت بما فعلت معاذة العنبرية بالشاة التي أهديت لها، فاستثمرت جلدها وعظمها، واستضاءت بشحمها، وحولت دمها طلاء، وقددت لحمها لموسم قادم ريثما تستهلك حواشَيها، أما القرنان فاستغنت بهما عن مشجب الثياب، فذلك أقرب إلى الحرص والتدبير ولكنه يمُتُّ إلى البخل بنسب اعتزال الناس والانكفاء على الذات؛ ولقد قصدت بهذه الأمثلة، علاوة على غرابتها المضحكة، أن أتجاوزها إلى الكرم الواجب على كل من تهيَّأت له الامكانات والعلاقات والوسائل لكي يقدّم ما في طاقته، دون حساب الربح والخسارة، لسدّ فجوة في جدار، أو إطفاء حريق شب، أو إيواء مشرّدين تهدّمت بيوتهم، أو الإمساك بمقود حافلة على شفا جُرُفٍ هارٍ.
أكتب هذه السطور التي ألجم جِماحها حتى لا تظهر من خلالها الأسماء التي تلحّ على خلدي، لكنني لن أفلح في كتم حوار هاتفي مع الدكتور نواف سلام منذ أيام، قلت له فيه: أما وقد أحرزت أعلى المراتب العالمية قدرًا في الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، أفليس للبنان وبيروت عليك حق؟ فأجاب بلا تردد، بل لهما عليّ أول الحقوق وأوجبها، وأنا لا أطوي شراعي عندما تهُبّ الريح، كما أنني لست من البخلاء، ولكنني أيضاً لست من المغامرين، فظنَّ خيرًا.
في القاعدة الشرعية أن الزكاة ركن من أركان الدين، ومن قواعد الفقه الالتزام بالمصالح المرسلة، ومن أساس السياسة أن الرادة لا يكذبون أهلهم، والربابنة لا يتركون سفنهم نهبًا لتوحُّش العواصف وشراهة الصخور.
أقول هذا بمناسبة وقوع الشعب والدولة في دوامة صراعات خارجية لا تقيم لمصالحنا وزنًا، بدليل ما حلّ بالاقتصاد وما ضاع من ودائع، وما تردّى من عيش، وما آل إليه الدستور، فهل يجوز، والحال كما هي، أن تُترك الأمور على غواربها، فلا يتبينَ الناس رؤية أو خطة بمناسبة أخطر استحقاق دستوري قد يجذب لبنان إلى دائرة لا يريدها أهله، ولا يستطيعون العيش في ظلها.
القاصي والداني يعلمان أن سعد الحريري علّق نشاطه على كَره منه ومن جمهوره فلا تجوز لنا المراوحة عند هذا الحدث، إذ لا بد له من علاج قادم، خشيةَ أن يتحقق فينا قولُ السيد المسيح: اقتسموا ثيابي بينهم، وعلى لباسي اقترعوا.
سألني السفير المحترم الدكتور مصطفى أديب عن سبب توسُّلي القاعدة الشرعية عن فرض العين الواجب على الذات المحددة، في رسالتي المفتوحة إلى الرؤساء ميقاتي والسنيورة وسلام المنشورة في الأول من آذار في جريدة النهار، والتي خاطبتهم فيها، مع من هم على سويّتهم، بأنْ لا وقت للحَيْرة والتردد؛ فقلت له لقد لجأت إلى الشرع لأنَّ بي أملًا ألا أُضطَرَّ في المرة القادمة للذهاب إلى المادة 498 من قانون العقوبات التي تحدّد جريمة تسييب الأولاد، فحسن النية يفرض عليَّ الإقرارَ بأن الدِّيَكَةَ ليست كلُّها على غرارِ دِيَكَةِ مرو، تسلُب الحبوبَ من مناقير الدجاج والفراخ.