الديار
لا يحصل إلا في لبنان... هكذا كان تعليق وفد صندوق النقد الدولي على طريقة تصرّف المسؤولين في لبنان تجاه الأزمة. ما يُسمّى «خطّة التعافي» هي بالحقيقة خطّة لـ «توزيع الخسائر»، تُعطي براءة ذمّة للدولة اللبنانية على دينها العام البالغ مئة مليار دولار أميركي، وتُحمّل الخسائر للمودعين بالدرجة الأولى، والقطاع المصرفي بالدرجة الثانية.
لا يخجل المعنيون من وقاحة هذا الطرح وهم الذين صرفوا 100 مليار دولار على قطاع كهرباء لا يعمل، ومشاريع لا وجود لها! وبدل البحث عن المكامن الحقيقية للفساد، إستسهلوا تحميل المودع تداعيات فظاعة ما فعلوه في المالية العامة وقرروا ضرب القطاع المصرفي لصالح قطاع ينتمي لهم بالكامل.
إنها الحقيقة المرّة، حيث أن التلطّي خلف التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان لن يُوصل أحد إلى الحقيقة (على الرغم من أحقية وشرعية هذا التدقيق). الأجدى بهذه السلطة البحث عن الـ 27 مليار دولار أميركي «المجهولة المصير» بحسب تعبير وزارة المال وعن مليارات الهبات غير المُسجّلة في حسابات الدولة كما صرّح وزير المال السابق علي حسن خليل وعن الحسابات المصرفية (المخالفة للقانون) لعدد من المؤسسات العامة في المصارف التجارية. أيضًا كان الأجدى بالسلطة البحث عن 50 مليار دولار أميركي تائهة في أروقة وزارة الطاقة والمياه وهي التي صنّفها المُجتمع الدولي على أنها – أي مؤسسة الكهرباء – الخطر الأول على المالية العامة!
وبدل أن يتحّمل المسؤولون مسؤولياتهم، كان أسهل لهم تحميل المودع والقطاع المصرفي مسؤولية صرف 100 مليار دولار أميركي لا نعرف على ماذا تمّ صرفها؟ يُريدون «كبش محرقة»، وها هو الشخص المناسب: حاكم مصرف لبنان...! يُريدون تحميل هذا المبلغ إلى طرف أخر: وها هي أموال المودعين جاهزة لتغطية الخسائر...!
قامت الحكومة بطرح إقتطاع 85% من القيمة الإسمية لسندات الخزينة، ويا لها من صدفة أن 85% من الدين العام هو داخلي! بذلك يُحمّلون المودعين والمصارف خسائرهم وفي نفس الوقت يضعون الحق على حاكم المركزي، وبالتالي يقفون على المنابر واعظين بالفضيلة ومُهاجمين الفساد، كأن الـ 27 مليار دولار المجهولة المصير في حسابات الدولة أو الـ 100 مليار دولار أميركي دين عام، إستفاد منها المواطن اللبناني أو أن حاكم المركزي قام بصرفها. عذرًا يا سادة: أنتم من صرف المئة مليار دولار دين عام وأنتم من يدير حسابات الدولة وأنتم المسؤولين عن الـ 27 مليار دولار المفقودة في حسابات الدولة! فلتبدأ المحاسبة من هنا!
خطّة التعافي التي يتحدّثون عنها ليست بخطّة تعافي، إنها خطّة لتوزيع خسائر مُفترضة. النظر إلى هذه الخطّة يجعل القارئ مصدوم من غياب أي إجراء لتفعيل النشاط الإقتصادي وبالتالي الأمل بإستعادة الودائع. على العكس يقومون بحسابات على الشكل التالي: محو 85% من الدين العام، تحميل القطاع المصرفي جزء والمودعين الجزء الأكبر، وتحميل رياض سلامة مسؤولية جنائية عن صرف هذه الأموال. وبالتالي يتم تبييض صفحة المسؤولين عملًا بمبدأ «عفى الله عما مضى». عفوًا يا سادة! حتى أن وفد الخزانة الأميركية بحسب ما ذكرت وكالة رويترز، «حثّ حكومة لبنان والمسؤولين المصرفيين على ضمان تعظيم العائد للمودعين في أي خطة للتعافي المالي».
أي خطّة تعافي يجب أن تنطلق من المسلمات التالية:
عدم المسّ بودائع المودعين عملًا بما نصّ عليه الدستور اللبناني.
تحفيز النشاط الإقتصادي لإستعادة الودائع
تحميل الخسائر (التي تُحقّق) للدولة اللبنانية بالدرجة الأولى والقطاع المصرفي بالدرجة الثانية مع العلم أن هذا الأخير أقرض الدولة اللبنانية بحكم القوة وتشابك المصالح. وهذا هو باب التحقيق القضائي!
وإذا كان بين المودعين من قام بعمليات مشكوك بها أو إستحصل على أموال غير مشروعة يجب مُحاسبته. وإذا كان بين موظفي القطاع المصرفي من إرتكب جرمًا، فيجب مُحاسبته. إلا أن المحاسبة الأولى يجب أن تكون من نصيب من راكم الدين العام، ومن إختلس الـ 27 مليار دولار من حسابات الدولة، ومن هدر مليارات الدولارات على مشاريع ومؤسسات لا جدوى منها.
في هذا الوقت سجّل سعر صرف الليرة اللبنانية مُقابل الدولار الأميركي يوم امس سعر 20200 ليرة لبنانية للدولار الواحد مع حجم 87 مليون دولار. هذا الحجم الضخم هو نتاج تسجيل العمليات التي يقوم بها الصرافون والمصارف على منصة صيرفة. على هذا الصعيد، علمت جريدة «الديار» من مصدر مُطلع أن حجم تدخل مصرف لبنان اليومي على منصة صيرفة بلغ 3 ملايين دولار أميركي على فترة الشهرين الماضيين وهو ما يجعل الحجم الإجمالي لتدخل مصرف لبنان لا يفوق بأسوأ الأحوال الـ 200 مليون دولار أميركي أي أن المصرف المركزي نجح بضرب ثلاثة أهداف بإصداره تعميم رقم 161:
الهدف الأول: إستقرار سعر صرف الليرة مُقابل الدولار الأميركي حيث من المتوقّع أن يستمر هذا الإستقرار حتى الإنتخابات النيابية.
الهدف الثاني: نقل الجزء الأكبر من السوق السوداء إلى منصة صيرفة وهو ما يلجم المُضاربة من قبل المضاربين.
الهدف الثالث: جمع مصرف لبنان 7 إلى 8 تريليون ليرة لبنانية من السيولة في السوق والتي ستُغطّي عجز موازنة الدولة من دون أن يلجأ المصرف المركزي إلى طبع العملة.
على الصعيد المعيشي، تنصبّ إهتمامات السلطة على الإنتخابات النيابية من خلال الرشوات الإنتخابية التي تُقدّمها لجمهورها عبر توزيع مساعدات على هذا الجمهور، بدل أن تنصبّ على تأمين القمح الذي سيختفي من السوق في أواخر هذا الشهر على أبعد حدّ أو تأمين الزيت الذي بدأت أسعاره ترتفع بشكل جنوني ومرشّح إيضًا إلى الإختفاء من الأسواق. ويتضحّ من التحرّكات التي تقوم بها السلطة أن حساباتها السياسية تفوق الهمّ المعيشي للمواطن حيث أن غياب خطّة تعافي مبنية على تحفيز الإقتصاد وإستعادة الليرة لقيمتها (تحسين القدرة الشرائية والحفاظ على المدخرات)، تجعل المواطن يخسر حاضره وماضيه مع فقدان أبسط حقوقه المعيشية وفقدان مُدّخراته التي تعب سنين طويلة لتحصيلها.