خالد أبو شقرا - نداء الوطن
التطبيل والتزمير، زُفّ خبر إقرار «قانون المنافسة» و»رفع الحماية عن الوكالات الحصرية»، بوصفه «العلاج السحري» لتخفيض الأسعار. الدولة البصيرة نظرت إلى «القشة» في عين «أخيها» القطاع الخاص، ولم تبالِ بـ»الخشبة» في عينها. مع العلم أن القطاع العام هو المحتكر الأكبر في لبنان، وممارساته المعرقلة والحمائية تعتبر المسبب الأول لارتفاع أكلاف الاستيراد والاسعار على حد سواء.
التمثل بالمجتمعات المتقدمة ومجارات إجراءاتها الإصلاحية، يتطلب أولاً وجود دولة قادرة. وعلى مؤسسات الأخيرة أن تتمتع بالنزاهة والشفافية، وأن تمتلك اليد الطولى على مرافقها البرية والبحرية والجوية. وإلا، فان كل القوانين والتشريعات ستبقى "حبراً على ورق"، ولن تنفع في التأثير على رفاه المواطنين وحصولهم على أفضل الخدمات بأحسن الاسعار. وهذا ينطبق على قانون المنافسة الأخير، والذي إن لن يضر، فهو على الأكيد لن يكون على قدر التوقعات المرسومة له.
إحتكار الدولة
معالجة الموضوع الذي أخذ حيزاً من النقاش العام والخاص تفترض وضع سيناريوين، والخروج باستنتاجات عن أيهما سيؤثر أكثر على الأسعار وحياة المواطن.
السيناريو الأول، يقضي بابقاء الحماية على الوكالات الحصرية، مقابل رفع كل عراقيل الاستيراد عن السلع المشابهة والمنافسة من علامات تجارية (ماركة) مختلفة، وتحرير خدمات القطاع العام والسماح بالمنافسة معه.
السيناريو الثاني، رفع الحماية عن الوكالات الحصرية، مقابل الإبقاء على احتكار الدولة للخدمات الأساسية، وعدم إيجاد حل للعراقيل الجمركية الشرعية وغير الشرعية.
الاحتمال الأول لا يهدف إلى تأييد الإبقاء على الحماية للوكالات الحصرية، إنما إلى إبراز "التمويه" الذي يمارس، والذي يهدف إلى التعمية عن جوهر المشكلة. فبحسب الباحث الاقتصادي في "المعهد اللبناني لدراسات السوق"، كارابيد فكراجيان فان "ارتفاع أسعار السلع والخدمات في لبنان مرده إلى احتكار الدولة الذي ينقسم إلى جزءين:
- جزء يتمثل بالقوانين التي ترعى وتحمي الاحتكار في القطاع الخاص. ومن الأمثلة على ذلك معامل الإسمنت الثلاثة التي تستحيل منافستها. حيث من شبه المستحيل إعطاء رخص جديدة لاقامة معمل آخر، ولا تسمح الدولة بالاستيراد من الخارج.
- جزء يتمثل بالقوانين التي ترعى وتحمي الاحتكار في القطاع العام حتى لو كانت إدارة المؤسسة خاصة أو مشتركة. ومن الأمثلة على ذلك الكازينو، وطيران الشرق الأوسط، والكهرباء، والاتصالات والريجي، والمياه والملاحة الجوية والبحرية... حيث تمنع القوانين بشكل قاطع منافستها وإقامة مشاريع مشابهة لها.
إرتفاع هائل في الاسعار
من الأمثلة الفاقعة على تأثير احتكار الدولة للخدمة على الأسعار تبرز شركة الطيران. حيث لا يقتصر الأمر على منع إعطاء رخصة لشركة وطنية ثانية، إنما أيضاً لا يسمح لشركة أجنبية موجودة وخاضعة لـ"الاتحاد الدولي للنقل الجوي" (الإياتا) الدخول على خطوط الشركة الجوية. فلا يوجد على الكثير من الخطوط إلا شركة واحدة إضافة إلى الشركة الوطنية. وهو ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار تذاكر السفر بنسبة كبيرة بالمقارنة مع الخارج، واضافة عائق جديد أمام استقطاب البلد للسياح والمغتربين من الخارج.
المؤسف أن هذه الاحتكارات لا تقابل بقصص نجاح باهرة وخدمات جيدة. لا بل أن الكثير من الخدمات في معظم الاحيان تكون سيئة مثال الكهرباء. فيما أصبح أقل فندق في لاس فيغاس وقبرص التركية أكثر فخامة وتطوراً وأقل كلفة من الكازينو. وقس على ذلك من أمثلة عن احتكار الدولة.
هذه الاحتكارات أدت إلى ارتفاع هائل في أسعار الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن في حياته اليومية والتي يستحيل استبدالها. وذلك على عكس "الماركات" الحصرية، حتى لو كانت محمية، والتي من السهل جداً إيجاد عشرات إن لم يكن مئات السلع المشابهة لها بمختلف المواصفات والاسعار.
الحد من المنافسة بالعراقيل
هذا الأمر المفروغ منه يقودنا إلى حقيقة أخرى تمارسها الدولة شرعياً وبـ"البلطجة" للحد من المنافسة بين السلع المشابهة. فـ"الدولة تضع سلسلة طويلة من العراقيل الجمركية، الشرعية وغير الشرعية، للحد من القدرة على إدخال البضائع المنافسة للسلع مرتفعة الثمن، أو حتى المحتكرة"، يقول فكراجيان. فـ"كلفة تخليص البضائع المستوردة، الرسمية وغير الرسمية (رشوة)، عبر المعابر الحدودية تبلغ 790 دولاراً لكل 15 طنّاً متريّاً، بينما تبلغ كلفة التصدير للحجم نفسه 480 دولاراً"، بحسب تقرير البنك الدولي. و"ذلك بالمقارنة مع صفر كلفة على الاستيراد في 25 اقتصاداً في العالم". أما لجهة الوقت، فان عملية إدخال بضائع جديدة تتطلب في لبنان أسابيع، وأحياناً أشهراً، نتيجة العرقلة والبيروقراطية، فيما لا تتطلب هذه العملية أكثر من ساعة واحدة في 30 بلداً حول العالم. "الامر الذي يعرض الكثير من المستوردين الجدد إلى ضغوط من قبل المصدَر"، بحسب فكراجيان. و"تحمّلهم خسائر كبيرة، إما نتيجة إخلالهم بالعقد والتوزيع في مهلة زمنية محددة، وإما بسبب تلف قسم من بضائعهم. فيضطرون إلى الانسحاب من السوق". أشكال العرقلة "فنون فنون". فمثلاً لا يمكن إعطاء رخصة لحانة تقدم المشروبات الروحية (PUB) إلا إذا كانت تمتلك موقفاً. فكيف يعقل أن يطلب في الترخيص موقف إذا كان من يشرب الكحول لا يحق له القيادة، ويجب عليه استقلال سيارات الإجرة! و"من هذا المثل ننطلق إلى ترخيص معامل جديدة للترابة... وغيرها الكثير من الأمثلة التي يؤدي احتكارها إلى ارتفاع أسعارها وأسعار الكثير من السلع التي ترتبط بها بشكل رئيسي"، من وجهة نظر فكراجيان. "فما المانع من فتح استيراد الترابة إذا كانت كلفة إنتاج الطن الواحد في لبنان أعلى بـ 3 إلى 4 أضعاف السعر في الخارج. وإذا كانت كلفتها مرتفعة لهذه الدرجة رغم حمايتها فهذا يعني أنه لا توجد معامل كفاية. مع العلم أنه بالامكان إنشاء مصانع في شتى المجالات إذا تم الإلتزام بالمعايير والمواصفات البيئية العالمية".
إذا أضفنا إلى هذه العوامل كلفة تأسيس شركة جديدة والتي تصل إلى 1000 دولار بالمقارنة مع جورجيا التي لا يكلف اجراء المعاملة نفسها فيها أي دولار. وجمعنا بقية الاجراءات الإدارية، من ضرورة التعاقد مع مكتب محاماة ومحاسبة... نستنتج أن ارتفاع الأسعار يعود إلى ممارسات الدولة الاحتكارية، ووجود عارضين محدودين في مختلف المجالات، وارتفاع الرسوم الجمركية والعمل على رفعها أكثر بالدولار الجمركي. وهذا ما يجب العمل عليه لتذليله لا وضع قوانين تتطابق في الشكل مع المعايير الدولية وتناقضها في المضمون.