إرث حرب العراق المريرة مدفونٌ في باطن أرضها
إرث حرب العراق المريرة مدفونٌ في باطن أرضها

دولية وإقليمية - Saturday, February 19, 2022 7:24:00 AM

المصدر: نداء الوطن 

تدلّت حاوية مسنّنة من كاسحة ألغام وغرست أسنانها في تلك الأرض المنكوبة وراحت تسحب التربة الجافة وتنخلها قبل وضعها على طرف أحد الحقول. ليست هذه الأكوام مجرد مخلفات حميدة، بل تشمل الحاوية 20 ليتراً من المواد المتفجرة، وهي كمية كافية لقتل الكثيرين وتدمير مركبة مصفّحة. كما أنها ليست ظاهرة نادرة، إذ يمتلئ حقل شاسع بعشرات الشرائط المرفرفة والمتّصلة بعواميد صفراء صغيرة يشير كل واحد منها إلى مكان قنبلة سابقة. في المحصّلة، سحبت المنظمة الإنسانية "هالو ترست" التي تزيل الألغام الأرضية ومخلفات متفجرة أخرى 700 عبوة ناسفة من هذا الحقل القاحل. هذه الأسلحة هي جزء بسيط من عشرات أو حتى مئات آلاف العبوات الناسفة التي نشرها تنظيم "داعش" في أنحاء العراق خلال عهده المرعب.

في بلدة بيجي الصناعية في محافظة صلاح الدين، بين بغداد والموصل، حيث احتدم القتال ودمّر المنطقة، تنتشر أحزمة سميكة من القنابل المدفونة من مصفاة نفط مجاورة، وهي الأكبر في البلد، وكان مقاتلو "داعش" قد فرضوا حراسة مشددة على هذا المكان سابقاً.

هذه الأسلحة العشوائية والقذائف غير المنفجرة وحقول الألغام من الحروب السابقة جعلت العراق من أكثر الدول التي تنتشر فيها المتفجرات في العالم. على غرار الرماد الذي تخلّفه الانفجارات البركانية، أدى احتدام الصراعات المتكررة في العقود القليلة الماضية إلى انتشار المتفجرات في مساحات واسعة من البلد.

اليوم، هُزِم "داعش" في ساحة المعركة رغم بقاء بعض نقاط التمرد في أماكن متفرقة. ومع ذلك، لا تزال نزعة التنظيم إلى ملء الأراضي التي كان يسيطر عليها بالمتفجرات القاتلة تُخيّم على البلد وتتابع قتل عدد مريع من المدنيين.

من الواضح أن ضخامة المشكلة تتفوق بأشواط على موارد عمال إزالة الألغام اليوم. يقول جوف موينان، مدير برنامج منظمة "هالو ترست" في المنطقة: "وضع العراق استثنائي لأن البلد يشمل مجموعة كاملة من المواد الشائكة".

تكون إزالة الألغام يدوياً الخيار الوحيد في بعض المساحات، لكن أصبحت الأزمة متفاقمة في بلدة بيجي وأماكن أخرى لدرجة أن تتكل عمليات منظمة "هالو ترست" على الأدوات الميكانيكية. توظّف هذه المنظمة البريطانية عمالاً محليين لتحديد مواقع التهديدات، وتوعية العائلات حول المخاطر، وترسيم الطرقات الآمنة للأولاد في طريقهم إلى المدرسة، ونشر مركبات مصفّحة ومتخصصة لاسترجاع أراضٍ آمنة قبل إعادة المساحات إلى السلطات. لكن رغم تسليط الضوء على فداحة الأزمة في الفترة الأخيرة، بدأ الدعم الدولي يتلاشى. تعمد العواصم الغربية إلى إعادة تنظيم علاقتها مع بغداد، ويشعر الدبلوماسيون باستياء متزايد من السلطات العراقية بسبب فشلها في تطبيق وعودها بالإصلاح. نتيجةً لذلك، تواجه جماعات إزالة الألغام دعماً متناقصاً مع مرور الأيام.

لكنّ العبوات الناسفة ليست الأزمة الوحيدة التي تجتاح بلدة بيجي، فقد دمّرت الاشتباكات المطولة بين القوى الموالية للحكومة و"داعش" معظم أجزاء البلدة وأدت إلى نشر عدد مرعب من البقايا غير المتفجرة في المرحلة اللاحقة.

بعد أكثر من ست سنوات على طرد المسلحين، لا تزال محطة سكك الحديد في بيجي عبارة عن مساحة مهجورة ومبعثرة من الزجاج المكسور والمعادن الملتوية. وأدى القتال الوحشي إلى تدمير محطة توليد الكهرباء في ضواحي البلدة القاحلة.

في الوقت نفسه، لا تدير القوات الفدرالية نقاط التفتيش بل ميليشيات شيعية مدعومة من إيران. ساعدت هذه الجماعات الدولة على استرجاع بيجي قبل أن تسيطر على المنطقة بنفسها، فنهبت منشأة التكرير وعذّبت المدنيين الهاربين أو أساءت معاملتهم من دون التعرض للمحاسبة. تكرر هذا النمط نفسه في أنحاء البلد، وهو سبب آخر لعدم عودة النازحين. في غضون ذلك، لا يزال مئات آلاف العراقيين، معظمهم من السُّنة، محتجزين في مخيمات في الشمال بعد هربهم من القتال في العام 2016.

اليوم، أصبحت بلدة بيجي تجسيداً حياً للمأساة المريعة الناجمة عن حرب المدن التي أصبحت نمطاً أكثر شيوعاً من العنف في الصراعات المعاصرة، فهي تؤثر على أكثر من 50 مليون شخص حول العالم. تتكرر التهديدات التي يتحمّلها سكان بيجي في أماكن بعيدة جداً عن هذه البلدة. تكشف أحدث بيانات "مرصد الألغام الأرضية والذخائر العنقودية" أن الألغام ومخلفات الحرب المتفجرة تسفر عن سقوط "عدد استثنائي من الضحايا" (أكثر من 7 آلاف قتيل وجريح حول العالم في العام 2020). بعبارة أخرى، يموت أو يصاب حوالى 20 شخصاً كل يوم.

من المعروف أن إزالة الألغام عملية مكلفة، لذا قد يفضّل السياسيون الراغبون في إرضاء ناخبيهم المحليين في الدول المانحة الغربية تمويل المدارس أو المراكز الصحية أو مشاريع الصرف الصحي في الخارج. على الورق، تفيد هذه المشاريع الناس أكثر من خطط إزالة الألغام التي تحمل الكلفة نفسها وبغض النظر عن أهمية هذه العمليات لإنقاذ حياة الناس.

بشكل عام، تفضّل الأطراف المعنية أن تتحمل الدولة العراقية مسؤولية إضافية في هذا الملف. ترغب الولايات المتحدة بدورها في تكليف بغداد بهذه المهمة، لكنها تعهدت حتى الآن بالحفاظ على مستويات الدعم الراهنة لإزالة الألغام في العراق، علماً أنها استقرت في السنوات الأخيرة بعد تراجعها بدرجة كبيرة في العام 2018.

في هذا السياق، صرّح السفير الأميركي في العراق، ماثيو تولر، لصحيفة "فورين بوليسي": "بشكل عام، تراجع التمويل من الجهات المانحة الأخرى ومن الحكومة العراقية أيضاً على الأرجح. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ما زلنا نعطي الأولوية للتعامل مع الألغام في المناطق المحررة من "داعش"".

يظن البعض أن الأميركيين وحلفاءهم يحملون مسؤولية تاريخية لإزالة المتفجرات. لم تكتفِ طائراتهم الحربية بإسقاط كميات هائلة من تلك الأسلحة فوق الموصل وقصف المدينة بحوالى 500 قنبلة أسبوعياً في آذار 2017، بل إنهم أطلقوا في العام 2003 الحرب التي سهّلت ظهور الجماعة المتطرفة ومهّدت لانتشار الاضطرابات الراهنة.

لكن ينكر السفير تولر ارتباط عمليات المسح بمشاعر الذنب، فيقول: "نحن لا نجلس ونتناقش حول الركام الذي خلّفته المعدات الأميركية التي استُعملت لهزم "داعش". نحن نقوم بهذه المهمة لأننا نريد مساعدة العراق وتحويل البلد إلى دولة قوية ومستقلة".

لكن رغم إقدام العاملين في المجال الإنساني على نزع آلاف المتفجرات سنوياً، هم يظنون أن العراق لن يخلو منها قبل مرور عقود بناءً على إيقاع العمل الراهن. وإذا تراجع حجم الدعم، ستطول تلك المدة الزمنية ويضطر عدد متزايد من المدنيين لتحمّل المصائب.

يزداد الوضع تعقيداً بسبب الاضطرابات السياسية، والإجراءات البيروقراطية المفرطة، وأعمال العنف المتقطعة، والمشاكل التقنية التي ترافق تفكيك العبوات الناسفة، والأفخاخ المتفجرة في المدن. تتعلق مشكلة أخرى بتهميش السلطة الوطنية العراقية المعنية بنزع الألغام لأنها جزء من وزارة الصحة التي تفتقر إلى صلاحيات وزارات أخرى مثل الداخلية والدفاع. تفاقمت الأزمة أيضاً بسبب التأخير المفرط والفوضوي في تشكيل حكومة جديدة بعد انتخابات تشرين الأول 2021.

استفادت المناطق الشمالية والغربية التي كان تنظيم "داعش" يسيطر عليها سابقاً من عمليات نزع الألغام طوال سنوات، لكن لم يهتمّ المعنيون كثيراً بالجنوب. تنتشر كميات هائلة من المتفجرات في هذه المنطقة، إذ تكثر هناك حقول الألغام المضادة للدبابات والأفراد والذخائر التي أطلقتها قوات جوية وبرية تابعة لجيــوش متنوعــة بــدءاً مــن فترة الثمانينات.

يوضح موينان: "تتعدد العوامل التي تجبر الدول المانحة على التطلع نحو الشمال، لا الجنوب. تكثر الحروب التي وقعت هناك منذ وقت طويل، وهي لا تحمل على الأرجح ثقلاً عاطفياً كبيراً بقدر الأضرار والأعمال الوحشية التي ارتكبها "داعش"".

للحفاظ على التزامات الدول المانحة والحكومة العراقية في هذا المجال، تقضي أفضل طريقة بتسليط الضوء على الفرص التي تقدّمها الأراضي بعد تخلصها من مخاطر الألغام ثم الاستفادة من تلك الإمكانات. يقول ميشال رنتينار، السفير الهولندي في العراق (يُعتبر بلده من الدول القليلة التي حافظت على دعمها لعمليات إزالة المتفجرات): "يجب أن تدرك الجهات المعنية أنها ستستفيد من نزع الألغام. هذه الخطوة قد تساعد الشباب على إيجاد فرص عمل، ما يمنعهم من الانضمام إلى جماعات غامضة ومتطرفة أو الهجرة من البلد. حتى أن هذا العامل قد يدفع السلطات إلى تخصيص ميزانيات معينة لإزالة الألغام".

لكن في الصحراء الواقعة خارج بيجي مباشرةً، يشير موقع سري لتخزين العبوات الناسفة المستخرجة إلى حجم التحديات المرتقبة في المرحلة المقبلة.

في نهاية شهر تشرين الثاني الماضي، انعطف محمد سلمان، مشرف في منظمة "هالو ترست"، من الطريق الرئيسي ثم خرج من سيارته تزامناً مع هبوب رياح شديدة في تلك الأرض القاحلة. في مكان مجاور، تجمّعت الرمال في محيط حطام محترق لمركبة عسكرية.

اقترب سلمان وزملاؤه من غطاء مشمع فوق الأرض وسحبوه وشاهدوا عشرات العبوات الناسفة غير المتفجرة. جُمِعت هذه الكميات من الأرض في أماكن أخرى ثم وُضِعت في هذه الحفرة قبيل إزالتها وتدميرها.

كانت كل قطعة من هذه الأسلحة الكارثية ومتعددة الألوان عبارة عن غالون أزرق أو أصفر أو أخضر يَسَع 20 ليتراً ويحتوي على نيترات الأمونيوم ويتّصل بلوحة ضاغطة. إنها كمية بسيطة من أصل 2200 عبوة أزالها عاملو "هالو ترست" من بلدة بيجي وحدها.

يقول سلمان: "عمدت الجماعات المسلحة إلى زرع هذه المتفجرات على شكل حزام حول البلدة لمنع تحريرها. لا يمكن تنظيف المنطقة بالكامل قبل مرور وقت طويل".

سيكون تأثير هذا الوضع على السكان المدنيين كارثياً لأنهم قد يقعون ضحية الانفجارات أو يخشون وقوعها طوال الوقت.

برأي سلمان، تحول هذه العبوات دون تنقل الناس بكل حرية، فهم يمنعون الأولاد من اللعب في الخارج والمزارعين من استعمال أيديهم: "أي انفجار من هذا النوع قد يقتل الناس فوراً. أحياناً، لا يمكننا أن نعثر على رفات الضحايا"!

 
 

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني