جاسم عجاقة - الديار
ماذا يفعل صندوق النقد الدولي في لبنان؟ وما هي المواضيع التي يتناولها فريق التفاوض الحكومي مع صندوق النقد؟ أسئلة تُشغل بال الكثيرين ويبقى التكتم عليها سيدّ الموقف. هذا الواقع دفع بالعديد إلى إطلاق التكهنات عن فحوى هذه الاجتماعات حتى ان بعض المعلومات التي جرى تداولها في الإعلام، تحدّثت عن رفض صندوق النقد لخطة الحكومة في ما يتعلق بالودائع و»ليلرتها» على فترة ١٥ سنة.
ما يجب معرفته على هذا الصعيد أن هناك آلية واضحة للتفاوض مع صندوق النقد الدولي عملًا بالقوانين اللبنانية. فالجهة التي تفاوض هي الحكومة، وبالتالي فإن أي خطّة تضعها الحكومة يجب أن يوافق عليها مجلس الوزراء قبل عرضها على صندوق النقد الدولي وعلى المقرضين. وبعد الحصول على موافقة الصندوق والمقرضين، يتم عرضها على المجلس النيابي نظرًا لتداعياتها الهيكلية على المالية العامة وعلى الشق الضريبي وإقرار القوانين. إذًا، كيف لصندوق النقد الدولي أن يرفض خطّة الحكومة ولم يتم عرضها على مجلس الوزراء؟ بالطبع، الوقت كفيل بالرد على هذا السؤال.
عمليا وكما وسبق ونشرنا في مقال في جريدة الديار في 7 تشرين الأول 2021، تتضمّن آلية التفاوض مع صندوق النقد الدولي، بحسب نظامه، ثماني مراحل هي: (1) التقدّم بطلب مساعدة من قبل الحكومة، (2) عملية التأهيل، (3) عملية التفاوض، (4) إرسال كتاب النيات، (5) موافقة المجلس التنفيذي للصندوق، (6) التوقيع على الإتفاقية، (7) صرف المبلغ الأساسي، و(8) التنفيذ/صرف المبالغ المتبقية. وفي ما يخصّ لبنان فإن آلية التفاوض مع الصندوق أصبحت في مرحلتها الثالثة – أي عملية التفاوض – والتي ينتج منها كتاب النيات، أي بمعنى آخر خطة التعافي. ويتضح مما سبق أن المرحلتين الثالثة والثامنة هما الأكثر حساسية.
صندوق النقد يتبع ثلاثة مبادئ يجب إحترامها في أي خطة تعاف بغض النظر عن الدولة التي تطلب المساعدة من الصندوق:
المبدأ الأول وينص على الإنفتاح على التجارة العالمية بأبعادها الاستثمارية والتجارية وهذا الأمر نابع من المدرسة «الميركانتيلية» التي تنص على أن الناتج المحلّي الإجمالي العالمي يرتفع مع زيادة التجارة الدولية، كما ومبدأ أن الانفتاح على العالم هو عنصر أساسي في الإنماء؛
المبدأ الثاني ينصّ على ترك حرية تحديد سعر الفائدة للسوق من خلال آلية العرض والطلب وعدم التدخل إلا ضمن إطار السياسات النقدية المتعارف عليها، أي الفائدة على المدى القصير (أقلّ من سنتين)؛
والمبدأ الثالث ينصّ على خروج الحكومات من المجال الاقتصادي بالكامل وتركه للقطاع الخاص مع الاحتفاظ بدور الرقابة والتشريع والتنظيم التي تنص عليها النظرية الاقتصادية.
وفي تصريح مُلفت لرئيسة صندوق النقد الدولي «كريستالينا غورغييفا» عن المفاوضات مع الحكومة اللبنانية، قالت غورغييفا: «نُصر على ضرورة أن يكون الأمر متعلقًا ببرنامج شامل». وأضافت «إن المناقشات حاليًا تُركز على اقتراح للموازنة من شأنه معالجة مشاكل القطاع المصرفي في لبنان، وعلى الإصلاحات التي يحتاج اليها البلد، بما في ذلك المزيد من الشفافية في ما تفعله الحكومة من دون أن يكون هناك نتائج دقيقة حتى الآن». ولعل الأهم في ما صرّحته غورغييفا أن صندوق النقد الدولي على علمٍ بمشاكل الفساد المستشرية في لبنان والمخاطر التي تهدد سمعة صندوق النقد الدولي، مشدّدةً على أن الصندوق سيدعم فقط «برنامجا شاملا يعالج جميع مشاكل البلاد بما فيها الفساد».
وهنا لبّ الموضوع حيث يُعتبر الفساد السبب الرئيسي في ما وصل إليه الوضع في لبنان والأزمة المتعدّدة الأبعاد التي يتعرض لها هذا البلد القابع في الفساد منذ عقود. هذا الفساد الذي قدّرناه في العام 2015 بأكثر من 10 مليار دولار أميركي سنويا (خمسة مليارات خسائر مباشرة وخمسة مليارات خسائر غير مباشرة)، عصف بالمالية العامة، وحرم الخزينة من عشرات مليارات الدولارات على مرّ السنين، بالإضافة إلى الضرّر الكبير على الاقتصاد واللعبة الاقتصادية التي يُعتبر الفساد العدو الأول لنموها.
وقد أظهرت مراجعة حسابات الدولة اللبنانية من العام 1993 إلى العام 2017 أن هناك أكثر من 27 مليار دولار أميركي مجهولة المصير، وهو ما يعني بكل بساطة أن لا مستندات تُثبت وجهة صرفها. وباعتقادنا عدم وجود قطوعات الحسابات من العام 2004 إلى العام 2020 (آخر قطع حساب تمّ إقراره في العام 2003) يعود إلى غياب الرغبة في المحاسبة بدليل أن لا أحد يطالب بالتدقيق في حسابات الدولة التي راكمت الدين العام وأوصلت إلى الإفلاس!
وهذا ما يدفعنا إلى القول والتشديد على أن التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان يجب أن يتزامن مع التدقيق بكل حسابات الدولة اللبنانية، وإلا لن يكون هناك من أمل في إصلاح الوضع المالي للدولة اللبنانية. فمقولة «عفا الله عما مضى» ستؤدّي إلى تحميل المواطنين (المال العام هو ملك المواطنين) ضريبة هذا الفساد وسيمتد الأمر ليستهدف الأجيال المستقبلية.
العجز المُزمن في موازنات الدولة اللبنانية أدّى إلى تراكم الدين العام على مرِ السنين (معدّل العجز السنوي بلغ 3.2 مليار دولار أميركي). وبالنظرّ إلى هيكلية الدين العام نرى أنها تدّل على نهجّ أكثر منه على لون الفريق السياسي الذي طغى على الحكومة، إذ إن كل الحكومات ما بعد الطائف اتّبعت طريقة الصرف نفسها في ظل غياب كامل لإدارة الدين العام. وشكّل الاقتراض بالدولار الأميركي وغياب الموازنات بين العامين 2006 و2016 إلى تراكم مرعب للدين العام أدّى إلى فقدان الدولة اللبنانية ملاءتها بالدولار الأميركي في العام 2015 وإعلان وقف دفع ديونها في العام 2020.
ولعلّ العنصر الأكثر خطورة في فقدان سيطرة الحكومة على المالية العامة هو ضعف الإقتصاد الذي لم يعد فيه فائض أولي كفيل بتغطية خدمة الدين العام. من هنا نشأ في لبنان خلل في المجال الإقتصادي والمالي:
على الصعيد الإقتصادي، هناك خلل كبير في هيكلية الإقتصاد اللبناني إذ يستهلك هذا الإقتصاد دولارات أميركية أكثر بكثير مما يُنتج، وهو ما يمكن إستنتاجه من خلال حجم الإستيراد الذي وصل إلى أكثر من 22 مليار دولار أميركي سنويًا مقارنة بـ 4 مليار دولار أميركي تصدير، مع العلم أن أموال التصدير لم تعد تدخل إلى لبنان منذ بدء الأزمة.
على الصعيد المالي، تستهلك المالية العامة دولارات أكثر مما تُنتج. ففيول شركة كهرباء لبنان، والسلك الديبلوماسي، والإيجارات العقارية لهذا السلك، والمشاريع العديدة التي قامت بها الدولة من دون جدوى إقتصادية، واستطرادًا خدمة الدين العام (بالدولار الأميركي)، إستهلكت عشرات مليارات الدولارات على مرّ السنين (بمعدّل 4 مليار دولار سنويا). وفي المقابل، لم تنجح الحكومة في تأمين مدخول ثابت لها بالدولار الأميركي وهو ما يُظهر ضعف الرؤية وفقدان السيطرة على الإنتظام المالي مما أدّى إلى إعلان الإفلاس في العام 2020.
الصدّمة الكبيرة هي عند سماع تصريح للمسؤولين يقولون فيه انهم لم يكونوا على علم بالإنهيار المالي. هذا الأمر يعني أمر من اثنين: إمّا أنهم كانوا لا يعلمون فعلًا وهذا يعني أنهم غير مؤهّلين لإدارة شؤون البلاد، أو أنهم كانوا يعلمون ولم يفعلوا شيئًا لتدارك الأمر! فالمعروف أن كلّ حكومة في أي دولة كانت، تواجه ثلاثة تحدّيات: الحفاظ على توازن داخلي (ثبات الأسعار، التوظيف الكامل)، والحفاظ على التوازن الخارجي (حساب جارٍ متوازن)، وإيجاد سعر صرف للعملة الوطنية يأخذ بعين الاعتبار التوازنين السابقين. وكان يكفي النظر إلى عجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات لمعرفة أن الإنهيار كان حتميا!! أيضًا كان يكفي النظر إلى التقارير الصادرة عن المؤسسات الدولية، كل هذه التقارير وعلى مرّ السنين طالبت بإصلاحات لاستدراك الكارثة التي نقع فيها حاليًا، حتى أن بعض المؤسسات مثل بنك أوف أميركا – مريل لينش، وصندوق النقد الدولي، قامت بوضع سيناريوهات التعثر في دفع الديون قبل أن يتوقّف لبنان عن دفع ديونه وهو إن دلّ على شيء، يدل على الآذان الصمّاء لأصحاب القرار.
وهنا يُطرح السؤال الجوهري: هل ستتمكّن الحكومة والقضاء من تنفيذ خطة مكافحة الفساد؟ هناك احتمالان:
إمّا مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، وهو ما قد يؤدّي إلى خلافات غير محسوبة النتائج بحكم إستخدام الفاسدين لمبدأ «عليّ وعلى أعدائي يا رب»،
وإمّا عدم مكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، وهو ما سيؤدّي إلى تدهور الوضع أكثر مما هو عليه بفعل عدم استعداد الخارج للمساعدة بدون مكافحة الفساد.
هذه المعضلة ستؤدّي حكمًا إلى تدخّل خارجي من باب العقوبات أو في حال إعلان فشل الدولة من قبل المجتمع الدولي قد تؤدّي إلى فرض إجراءات خاصة تحت أحكام الفصل السابع.
اليوم وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه من واقع إقتصادي ومالي ونقدي تعس، ورأفة بالشعب، يجب على الحكومة ومن خلفها القوى السياسية في المجلس النيابي، الإسراع في وضع خطّة التعافي بما يضّمن حق المواطن اللبناني ويحفظ مصالحه، وذلك بمعزل عن أي اعتبارات سياسية أو انتخابية. فالفقر الذي لامس ثلاثة أرباع الشعب اللبناني، سيحتاج إلى سنين عديدة لإعادته إلى مستوياته التي كان عليها قبل الأزمة.