قانون المنافسة الذي يمنع الهيمنة ويكافح الحصرية والاحتكارات هو أساس النظام الاقتصادي الحرّ في أي بلد. منذ سنوات، يتنقل هذا القانون بين مجلسَي الوزراء والنواب من دون أن يُقرّ بأمر من المحتكرين. أخيراً، توافقت اللجنة النيابية التي تناقش القانون (سيناقش في اللجان المشتركة اليوم) على 69 مادة، باستثناء تلك التي تلغي الوكالات الحصرية. إقرار القانون من دون إلغاء الاحتكارات يعني إفراغه من مضمونه، وإبقاء المواطن أسيراً لهيمنة التجار وتلاعبهم بالأسعار وقطعهم مواد حيوية متى شعروا بأن ثمّة ما يمّس بثرواتهم.
يعود قانون المنافسة الى اللجان النيابية المشتركة اليوم، بعد نحو عام من الأخذ والرد في اللجنة المكلفة مناقشته، وبعد نحو عامين ونصف عام على إيداع وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش مشروع القانون في الأمانة العامة لمجلس الوزراء. بعدها تكاثرت قوانين المنافسة، بعضها برعاية الهيئات الاقتصادية المحتكرة، وبعضها الآخر يساعد في تحويل الاقتصاد الى نظام حرّ فعلاً. النقطة الأساس في قانون المنافسة الذي يناقش حالياً، وهو نتاج دمج 4 قوانين (مشروع قانون بطيش، اقتراح قانون كتلة الوفاء للمقاومة، مشروع معدّل من راوول نعمة والهيئات الاقتصادية، اقتراح مقدّم من النواب: فادي علامة وجهاد الصمد وبلال عبد الله وياسين جابر)، هي المادة الخامسة المتعلقة بالوكالات الحصرية. وفيما جرى التفاهم على 69 مادة، بقيت هذه المادة عالقة لأنها، بكل بساطة، تتعلّق بكارتيل الاحتكارات المؤلف من نواب ووزراء ورجال أعمال نافذين يدورون في فلك الأحزاب ويسطون على قطاعات مختلفة من الدواء الى الغذاء والسيارات والإلكترونيات وكل ما يمكن للوكالات السطو عليه. وهو ما يؤدي الى غلاء الأسعار نتيجة تحكّم المحتكرين وتثبيتهم الأسعار التي تحقق لهم أرباحاً طائلة، وحتى قطع مواد أساسية وحيوية من السوق عندما تقرر الدولة الاستفاقة على واجباتها. هكذا حافظ هؤلاء على امتيازاتهم، منذ 55 عاماً، بحماية من الدولة ومن دون أن يجرؤ أحد على المسّ بمصالحهم. ورغم أن عدد الوكالات الحصرية لا يتجاوز 300، إلا أن المحتكرين يتمتعون بنفوذ مكّنهم من الحؤول دون بتّ المجلس النيابي المادة التي تتعلق بإلغاء الوكالات، بل برز صراع في اللجنة بين مؤيد لإلغاء الحصرية نهائياً (الوفاء للمقاومة ونائب كتلة التنمية والتحرير فادي علامة) ومن يدعم «وضع ضوابط على الوكالات بحيث لا تنعكس على المستهلك كما في فرنسا» (التيار الوطني الحر والحزب الاشتراكي وتيار المستقبل)، وبين من يصرّ على الإبقاء عليها بصيغتها القديمة (ممثلو الهيئات الاقتصادية). النقاش لا يزال مستمراً ما سيدفع رئيس اللجنة النائب فريد البستاني الى الطلب في جلسة اللجان اليوم تمديد مهل لجنته يومين إضافيين ليرسو الأعضاء على صيغة حول المادة 5. «الوفاء للمقاومة» لا تزال ترفض التوافق الذي ظهر بين بقية الأحزاب حول صيغة للإبقاء على الوكالات «غير المضرّة»، أي تلك المحتكرة لماركات معيّنة في السوق على ألا ينسحب الاحتكار الى السلع. بمعنى آخر، يمكن لشركة ما احتكار ماركة سيارات أو لباس أو أحذية لكن لا يمكنها احتكار استيراد السيارات بشكل كامل أو الأحذية أو الألبسة. وهو أصلاً ما لا يحصل حتى في أكثر الأنظمة الاقتصادية المقفلة والاحتكارية. ولا يمكن اعتباره «تعديلاً» للصيغة التي تريدها الهيئات بقدر ما هو إعادة صياغة للاحتكار بطريقة «مودرن»، حتى لو أُضيفت على المادة عبارة تشير الى «كسر الوكالة» في حال التثبت من مخالفة الوكيل الحصري للشروط. ثمة من يأخذ هنا النموذج الفرنسي حيث الوكالات الحصرية لا تزال موجودة، لكنها تخضع لضوابط تمنعها من الإضرار بالمستهلك أو التلاعب بأسعار السوق. إلا أن لبنان ليس فرنسا، وتجربة الرقابة تدعو الى السخرية وخصوصاً إذا ما أخذنا ملف دعم المواد الغذائية نموذجاً. والمفارقة أن جرأة أصحاب الوكالات والهيئات الاقتصادية دفعتها الى اشتراط أن تدفع كل شركة ترغب في استيراد السلع التي يستوردها أي وكيل، تعويضاّ مالياً لصاحب الوكالة الذي «تعذّب» منذ عشرات السنوات لتنمية عمله والتمدد في السوق!
باستثناء المادة الخامسة، قطع أعضاء اللجنة شوطاً كبيراً في المواد الكثيرة التي تحدّد أطر المنافسة وتشكيل الهيئة الوطنية للمنافسة وتنظيمها وتحديد مهامها، إضافة الى الغرامات والعقوبات. ما سبق يعدّ إنجازاً يضع قانون المنافسة على سكة الإقرار. إلا أن إقراره من دون إلغاء الوكالات الحصرية «جريمة»، على ما يقول بطيش لـ «الأخبار»، فـ«طالما الحصرية موجودة يعني ذلك إفراغ القانون من مضمونه، وأنه لا يتناسب مع الاتفاق الموقّع بين لبنان والاتحاد الأوروبي والذي كان يفترض أن يطبق منذ عام 2008». ويؤكد أن «لا اقتصاد حرّ في ظل الوكالات إلا إذا كان الهدف تأمين أرباح قلّة حققت عشرات ملايين الدولارات على حساب أكثرية الشعب»، علماً بأن «نسبة الهيمنة» في المادة التاسعة، وبعدما عدّلتها «الوفاء للمقاومة» إلى 20%، بمعنى أن يعتبر كل تاجر أو شركة تحوز حصة من السوق تفوق هذه النسبة مهيمنة، عادت اللجنة لترفعها الى 35% كما في مشروع قانون بطيش. بينما كانت الهيئات الاقتصادية تفاوض لرفعها الى 40%، رغم أن أصحاب الاختصاص يرون أن السيطرة على ثلث السوق يعني هيمنة، لأنه يمكن لشركتين عقد اتفاق من تحت الطاولة بينهما للسيطرة على السوق بكامله. علامة أوضح أنه «تم التوافق على النسب باعتماد دراسات علمية وعبر مقاربات من مندوبين في وزارة الاقتصاد، على أنه يبقى للهيئة العامة التصويت سلباً أو إيجاباً على هذه النسبة».
كيف يمكن مناقشة الغاء الوكالات الحصرية في حين أن رئيس اللجنة يملك وكالة حصرية لبيع السيارات؟ يجيب علامة أنه «للأمانة، تعامل النائب بستاني بحيادية تامة في هذا الموضوع بالذات ولم يبد أي رأي، بل أنه فضل عدم المشاركة بالتصويت حتى لا يعتبر صوته مرجحا لكفة ضد كفة».