خالد أبو شقرا
حلاّن أحلاهمها مرّ فرضتهما الأزمة على مستخدمي الاتصالات: إما انقطاع الخدمة وتحولها إلى ما يشبه واقع الكهرباء، مع فارق جوهري يتمثل في غياب البديل، وإما ارتفاع الأسعار بشكل كبير. في الحالتين سيدفع الأفراد، والكثير من المؤسسات فاتورة تفوق قدرتهما.
أسباب الأزمة الجلية التي يمكن اختصارها بـ 3 كلمات: نفقات تفوق الإيرادات، ستعيد تشكيل بنية الاقتصاد في القادم من الأيام. فالتحول الرقمي في المجتمعات الحديثة القائم على البنية التحتية التكنولوجية لم يعد ترفاً، إنما حاجة فعلية للنمو والقدرة على المنافسة. ومن دون قطاع اتصالات يقدّم خدمات سريعة وفعالة وبأسعار زهيدة، ستتعطل معظم الاعمال التجارية والاقتصادية؛ هذا من دون التطرق إلى إعدام فرص الانتقال نحو التجارة والمعاملات الإلكترونية، وإنشاء المدن الذكية.
رفع الأسعار منطقي... ولكن!
مهما رُفعت كلفة الانترنت لمنع سقوط القطاع في المحظور، ستبقى أدنى بما لا يقاس من تعرفة الكثير من دول الجوار. وبمقاربة بسيطة فان ما تدفعة شركة لبنانية تضم بين 10 و30 موظفاً لقاء حصولها على: راوتر ( Router) بقيمة 37000 ليرة + 1000 غيغابايت بسرعة 200/100 بقيمة 240 ألف ليرة، بـ (Zhone Area) بكلفة 300 ألف ليرة، يبلغ 540 ألف ليرة، أي 20 دولاراً أميركياً بسعر صرف السوق اليوم. في المقابل تدفع نفس الشركة في إحدى الدول العربية القريبة لقاء الحصول على نفس الخدمة حوالى 170 دولاراً شهرياً. لكن الفرق أن الأجر الأدنى في هذه الدولة لا يقل عن 1300 دولار، في حين أن الحد الأدنى للأجور في لبنان يبلغ 27 دولاراً. وعليه، فان رفع الأسعار حتى لو كان منطقياً فهو سيحرم شريحة واسعة من المواطنين وحتى الشركات الصغيرة من الاستفادة من خدمات الانترنت. كما أنه يتناقض مع استراتيجيات وخطط الاقتصاد الرقمي للدول العربية التي تنص من ضمن أجندتها على:
- تعزيز النفاذ إلى الانترنت للجميع بسرعة فائقة.
- محو الأمية الرقمية.
الخسائر بالمليارات
بقاء قطاع الإتصالات على ما هو عليه اليوم قد يكون واحداً من أكثر المخاطر غير المحسوبة على الاقتصاد. فـ»البلدان متوسطة التقدم في مجال الانترنت تخسر يومياً ما يقارب 6.8 ملايين دولار لكل 10 ملايين نسمة، في حال تعطل الخدمة بحسب دراسة قامت بها شركة ديلويت Deloitte»، يقول نائب الرئيس الأول لشؤون البحث والتطوير في شركة Intalio «إنتاليو»، وخبير التحول الرقمي رامز القرا. و»إذا افترضنا أن عدد سكان لبنان 6.5 ملايين نسمة، فان الخسائر المباشرة المتوقعة جراء توقف الانترنت تبلغ 3.7 ملايين دولار يومياً، أو ما يعادل 110 ملايين دولار شهرياً». هذا من حيث الأرقام، أما الاشد خطورة، فهو انعكاس هذا الواقع على الثقة بالبلد والاقتصاد، وهجرة الشركات... وهي عوامل لا تقدر خسائرها بثمن.
الشركات الصغيرة تغادر
الكثير من الشركات التي تملك الإمكانيات تركت البلد نهائياً في الشهور الأولى على تأزم وضع الكهرباء مع بداية الإنهيار. ولم يبق في الداخل إلا مجموعة من الشركات الصغيرة التي تعجز عن تحمل تكاليف الانتقال إلى كل من تركيا وقبرص تحديداً. ففضلت رغم المعوقات تجهيز نفسها ببدائل الطاقة والاستمرار. «إلا أنه مع انقطاع الانترنت، وفي ظل عدم وجود البدائل، لم يعد من خيار أمام هذه الشركات إلا الانتقال إلى الخارج»، برأي القرا. و»الهدف ليس تعظيم الارباح إنما المحافظة على زبائنهم والتواجد في الأسواق». وبخروج هذا النوع من الشركات ستتعمق خسائر الاقتصاد. ذلك أن «اهميتها تتمثل في أن ما تنتجه من «فريش» دولار يعاد توظيفه بمعظمه لتسديد الأجور والاكلاف، وذلك على عكس الشركات الكبيرة التي يوضع الفائض لديها في الخزنات»، من وجهة نظر القرا.
الحل موجود وسهل
أمام هذا الواقع يظهر أن رفع التعرفة للمحافظة على الانترنت، وبالتالي ضمان استمرار الاقتصاد أمر حتمي. من دون أن يعني ذلك بالضرورة «تحميل كل فئات المجتمع العبء نفسه لارتفاع الاسعار»، يقول القرا. «إذ بامكان شركات الاتصالات توفير خدمة ممتازة premium سريعة ولا تنقطع للشركات شرط التسديد بالدولار، والابقاء على الخدمة التقليدية غير مضمونة الاستمرارية لمن يريد من الافراد الذين لا يعتمدون عليها للعمل والانتاج».
الاقتصاد الرقمي ضرورة آنية ومستقبلية
ما يطرحه رامز القرا منطقي، ذلك أن الدول التي تعجز عن السير بركب الاقتصاد الرقمي ستخرج من النظام الاقتصادي العالمي، وتتحول إلى جزر متخلفة. ولكي لا يسقط لبنان إلى هذا الدرك و»يعزز الاستفادة من منافع الاقتصاد الرقمي، عليه الإلتزام بتطبيق 5 ركائز أساسية»، بحسب المدير التنفيذي لـ»مركز الاسكوا ESCWA للتكنولوجيا» كريم حسن وهي:
- تقوية البنية التحتية الأساسية، لتسهيل الحركة التجارية. وذلك من خلال تطوير الموانئ البرية والبحرية والجوية، واصلاح الكهرباء والمياه...
- تقوية البنية التحتية الخاصة بالتكنولوجيا الرقمية، وتتمثل في شبكة الانترنت والألياف البصرية وتوسيع تغطيتها ورفع امكانيات السعات التخزينية والخدمات العامة الحكومية المقدمة للشركات والأفراد.
- تعزيز البيئة التمكينية بما تتضمن من تشريعات وقوانين وسياسات حكومية. وتشجيع الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة.
- تطوير التقنيات التمكينية، من خلال:
1. توفير تقنيات الأمن السيبراني، والحوسبة السحابية، وتحليل البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي على المدى القصير.
2. توفير التقنيات الخاصة بـ Blockchain وانترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد على المدى المتوسط.
3. توفير الاستثمارات في BIOTECHENOLOGY وتطبيقاتها على المجالات الصحية، وإدخال الروبوتات في القطاعين الصناعي والزراعي، وتخزين الطاقة وإعادة استخدامها على المدى الطويل.
- وأخيراً، تعزيز القدارت البشرية المتاحة.
النظرة المتكاملة
«توافر هذه المحاور تمكّن لبنان من بناء اقتصاد قوي يعتمد على الطاقة البشرية المتاحة، ويعزز من مكانة البلد الإقليمية والدولية»، برأي حسن. و»لا سيما أن بمقدور لبنان بما يختزن من إمكانيات، وبنية تعليمية ومؤهلات فردية أن يكون من رواد الاقتصاد الرقمي. لكن المطلوب النظر للأمور بشكل متكامل، وإعادة تقييم المحاور الخمسة المذكورة وتحديد نقاط الضعف والعمل عليها». ومن المهم الاستفادة من التفاعل والتعاطف الدوليين مع لبنان، واستغلال جهود المنظمات الدولية الراغبة بالتعامل معه، من أجل ازدهار الاقتصاد وإعادته إلى ما كان عليه. فـ»موقع لبنان الذي يتوسط الشرق والغرب وأفريقيا، وطاقاته الاغترابية الكبيرة تشكل عناصر قوة عليه استغلالها»، من وجهة نظر حسن.
الجهات الرسمية والخاصة مدعوة أكثر من أي وقت مضى من أجل الاستفادة من الامكانيات والطاقات العالية جداً المتوافرة.
وتطبيق الاقتصاد الرقمي ليس أمراً مستحيلاً رغم كل الصعاب.
لكن بشرط استغلال المتاح، واجراء التعديلات والاصلاحات، وتحديد الهدف المطلوب والعمل على تحقيقه مع كل ما يتطلبه.