زياد بارود
المنافع الاقتصادية للامركزية الادارية والمالية الموسعة
إلى جانب منافعها "الديمقراطية" من حيث المشاركة الشعبية الأوسع، فإن المنافع الاقتصادية للامركزية يمكن أن تكون على جانب كبير من الأهمية، بشرط تضمين القانون ما يكفي لجعلها كذلك. وعندما نعطي لللامركزية صفة "الموسعة" (كما ورد في اتفاق الطائف)، فإن المقصود هو صلاحيات الوحدات اللامركزية التي يُفترض أن تكون واسعة، بحيث تشمل ما يمكن أن يحفّز اقتصادياً أو يأتي بالنفع الاقتصادي والاجتماعي على تلك الوحدات. في لبنان، يبلغ المعدّل الوسطي للانفاق المحلي بين 5% و7% من إجمالي الإنفاق العام، في حين أن المعدّل العالمي هو بحدود 27% (ويصل في الدانمارك إلى 62%!)، ونلاحظ أن الدول الأكثر استقراراً على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي هي تلك التي ترتفع فيها نسبة الانفاق المحلي من إجمالي إنفاق السلطة المركزية، وهذا يعني أن الأثر مباشر على الحركة الاقتصادية المحلية إذا أعطيت الوحدات اللامركزية ما يكفي من إمكانيات مالية بموازاة الصلاحيات الواسعة. إلى ذلك، فإن الإنماء المحلي هو إنماء يُفترض أن يديره من يعرف الحاجات المباشرة والإمكانيات الخاصة بمنطقته، وهو إنماء لا يخضع إجمالاً للبيروقراطية ولا يخضع لاستنساب المركز في مقاربة البنى التحية، مثلاً، بل يترك هوامش واسعة من التقدير المحلي الذي يتولاه أشخاص منتخبون، لأن الأساس في اللامركزية هو الانتخاب والاستقلالان الإداري والمالي.
كيف ينشأ الانماء المتوازن مناطقياً مع تطبيق اللامركزية؟
يُخطئ من يعتقد أن اللامركزية تؤدي حكماً إلى الإنماء المتوازن، والحقيقة أن هذا الأخير هو رهن بشكل اللامركزية، وبشكل أخص بواردات الوحدات اللامركزية. ولتبسيط الصورة، إن اللامركزية التي تكتفي بموارد ذاتية ومحلية فقط لكل وحدة لامركزية، يمكن أن تؤدي إلى خلل واضح في الإنماء بين المناطق، حيث تزدهر التي لديها مداخيل ذاتية بحكم قربها من العاصمة أو تكوينها أو طبيعة أنشطتها (مالية، مصرفية، تجارية...)، في حين تعاني مناطق أخرى من عدم كفاية الموارد، فيصعب تطورها الاقتصادي، فتعجز اللامركزية عن تأمين هذا الانماء المتوازن الذي اعتبرته مقدمة الدستور (الفقرة "ز") "ركناً أساسياً من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام". وتستطيع اللامركزية أن تساهم جداً في هذا الاتجاه، بل من الضروري أن تفعل، من خلال أمرين على الأقل: استمرار السلطة المركزية في أداء واجبها تجاه المناطق، لأن اللامركزية لا تعني تخلي الحكومة المركزية عن واجباتها، وهذا ممكن من خلال اللاحصرية (déconcentration) التي تقوم على تمثيل المركز في المناطق عبر موظفين تابعين له، كالمحافظين أو مكاتب الوزارات في المناطق (الصحة، الزراعة، التربية...). وأيضاً من خلال آليات توزيع العائدات المشتركة بين المناطق عبر صندوق خاص يخضع فيه التوزيع إلى معايير موضوعة مسبقاً، تؤدي إلى عدالة في التوزيع وتنمية المناطق الأقل قدرة على التمويل الذاتي. هكذا، مثلاً، نصّ مشروع القانون الذي أعدته اللجنة الخاصة (2014) على استحداث صندوق لامركزي مجلسه منتخب بالكامل ويخضع توزيع العائدات فيه لمؤشرات موضوعة مسبقاً.
لماذا يشيطن البعض اللامركزية المالية ويقبلون بالادارية فقط؟
السجال السياسي شيء والمبدأ القانوني شيء آخر. فالواقع أن اللامركزية هي دائما إدارية، وإذا أصبحت "سياسية"، تكون قد انتقلت إلى الفدرالية. وفي اعتقادي أن الصفة التي تُعطى لللامركزية، أكانت إدارية أو مالية غير مهمة، لأن العبرة تبقى في مضمون اللامركزية ومدى صلاحيات وحداتها ومدى قدرتها المالية للاضطلاع بهذه الصلاحيات. التوصيف اللفظي لا يقدّم ولا يؤخر بقدر ما ان النص التشريعي هو الذي يحسم. "شيطنة" الصفة المالية سياسي وليس منهجياً أو علمياً، لسببين، على الأقل: 1- لأنه لا يمكن تصوّر لامركزية فعّالة ومنتجة إلاّ إذا اقترنت بعائدات مالية تمكّن المجالس المحلية من ممارسة صلاحياتها، وفي غياب تلك العائدات، عبثاً نبحث في اللامركزية الإدارية، "بلاها أحسن"!.
2 - لأن مالية اللامركزية لا تعني انفصالاً عن المركز على الاطلاق، بل تكاملاً وتنسيقاً وتقاطعاً على المستوى التشريعي-الضريبي، مثلاً، كما الحال في كل الدول التي اعتمدت نظاماً لامركزياً. هل انفصلت المناطق الفرنسية عن باريس لأنها عزّزت لامركزيتها بموارد ضخمة؟! الجدل السياسي مؤسف جداً لأنه لا يقارَب الموضوع منهجياً ولأنه يلقي على اللامركزية ما هي براء منه: اللامركزية ليست تقسيماً، بل حالة إنعاشية للمناطق ضمن وحدة الدولة. اللامركزية المالية ليست سوى جزء من أية لامركزية يُراد لها أن تنجح في تنمية المناطق، وهذه التنمية ترتدّ إيجاباً على كامل الدولة، إلا إذا كان المطلوب الاستمرار في الإطباق على الحالة المحلية المنتخبة، من خلال استمرار السلطة المركزية في ممارسة استنسابية تكاد تكون مطلقة تجاه تلك الحالة. ولنا في البلديات المثل الصارخ على كيفية توزيع واردات الصندوق البلدي المستقل والمأزوم واقتطاع مساهمات من البلديات، غالبها غير إرادي.
كيف تكون العلاقة المالية والضريبية بين الدولة المركزية واللامركزيات؟
يحكمها القانون. بعض الضرائب ستبقى مركزية، وبعضها الآخر سيكون توزيعه مشتركاً بنسب معينة بين المناطق والمركز، فيما بعضها الأخير سيكون من حصّة المجالس المحلية، وذلك بصورة مباشرة. والمثال على ذلك، في مشروع القانون الذي هو اليوم قيد المناقشة في المجلس النيابي. فضريبة الاملاك المبنية بكاملها لصالح صندوق مجلس القضاء، لأن جغرافية العقار معروفة ولأن واردات هذه الضريبة مهمة، ولأن نقل بعض الصلاحيات يفترض أن يستتبعه نقل بعض الواردات. أما الرقابة، فيقترح المشروع أن تكون لاحقة وليست مسبقة وأن تكون قضائية، لا إدارية. الأهم أن المشروع لا يستحدث ضرائب جديدة، بل يكتفي بنقل بعضها، جزئياً أو كلياً، من المركز إلى المجالس المحلية. ولأن السلطة المركزية ستبقى مسؤولة عن أعباء عدة، كالدين العام والبنى التحية العابرة للمناطق والمرافق العامة الوطنية عموماً. فإن بعض الواردات ستبقى مركزية، ولو كانت ضمن مناطق محددة، كالنفط والغاز.
كيف يمكن منح حوافز ضريبية عادلة وفعالة لتنشأ قطاعات منتجة هنا وهناك؟
كله رهن بما سينتهي إليه مشروع القانون، ولكن الأبرز هو تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP) ضمن إطار قانون الشراكة. بعض المناطق تتمتع، مثلاً، بميزات تفاضلية في قطاع معين وإنما تفتقر إلى الإمكانات التمويلية. يمكن أيضاً التفكير بنظام الـBOT، بعيداً عن الخصخصة. ألا يمكن لمعمل معالجة النفايات، مثلاً، أن يكون بإحدى الصيغتين، فيتم بذلك إنشاء المعمل واستفادة المنطقة منه وتعزيز وارداتها ربما من خلال استفادة منطقة مجاورة من خدماته لقاء بدل؟ يمكن أيضاً تصوّر حوافز ضريبية، كأن يكون هامش الضريبة متحركاً بين حد أدنى وحد أقصى، فيعطى المجلس المنتخب صلاحية تحديده بين الحدّين لاجتذاب الاستثمارات، كما يمكن لمنطقة ريفية، فيها أراض غير مستثمرة ويد عاملة كفوءة، أن تشجّع على صناعات غير ملوثة لقاء حوافز، فتخلق فرص عمل وتؤمن موارد غير مباشرة.
كيف يمكن تنمية المناطق الأكثر فقراً في ظل اللامركزية؟
على الدولة المركزية أن تبقى معنية بمناطقها، لأن اللامركزية ليست انسلاخاً عن المركز، والانماء المتوازن يفترض استمرار السلطة المركزية في أداء دورها على مستوى البنى التحتية العابرة للمناطق، وعبر القطاع الصحي والتربوي والمرافق العامة الوطنية، مع ضرورة التوزيع العادل للواردات الوطنية على المناطق. مثلاً: إذا أنشئ الصندوق السيادي للنفط والغاز، فينبغي أن تستفيد منه كل المناطق. العبرة تبقى في المعايير وأزمتنا دائماً هي أزمة معايير. أزمتنا هي أيضاً في منهجية الزبائنية التي تفترض أن تحظى منطقة بالخدمات وفقاً لتمثيلها الوزاري أو النيابي. اللامركزية تكسر هذه الحلقة وربما كان ذلك سبباً مباشراً (ولو غير معلن) لرفضها من البعض.
هل صحيح اليوم ان لمناطق مساهمة اكبر بالناتج وبالايرادات اكثر من أخرى وما هي مساوئ ذلك؟
هذا صحيح وسببه إما موقع هذه المناطق وحجمها الاقتصادي ومستواها المعيشي مقارنةً مع أخرى، وإما تراجع الجباية وتواضعها في مناطق أخرى. ويعبّر ذلك عن خلل في الإنماء ويؤدي إلى شعور بالغبن. النظام المركزي يعتمد مبدأ وحدة الموازنة، أي أن الجباية تتم من كل لبنان وتدخل الواردات إلى خزينة الدولة، ومنها يعود ويحصل التوزيع على الوزارت والمجالس والإدارات والمناطق، وغالباً ما يخضع للاستنساب، في غياب المعايير. لكن اللامركزية ليست ولا ينبغي أن تكون ردّة فعل على هذا الخلل. هي تعالجه جزئياً دون أي شك، ولكن تستمر المناطق تموّل جزءاً ليس قليلاً من واردات الدولة، ولذلك، وبموازاة اللامركزية، لا بد من العمل على إخضاع الإنفاق المحلي من السلطة المركزية لقواعد ومعايير صارمة تؤدي إلى إنماء متوازن. ومن مصلحة كل الوحدات اللامركزية، وحتى المقتدرة منها، ان تكون جارتها الأقرب أو الأبعد على قدر من النمو لأن ارتداداتهما الإيجابية على مستوى الوطن.
ما هو مفهوم مؤشر التنمية حسب طرحكم؟
هو جزء من آلية توزيع عائدات "الصندوق اللامركزي" الذي اقترحنا أن يحل محل الصندوق البلدي المستقل المأزوم نشأةً وتطبيقاً ويختلف عنه جذرياً، تكويناً وإدارة وصلاحيات ومعايير توزيع. وهو يتمتع بالشخصية المعنوية وبالاستقلالين الاداري والمالي وهو منتخب، ويهدف إلى تأمين ظروف تنموية متكافئة بين المناطق وردم الهوة بين المناطق المقتدرة والمناطق المحرومة. ولتأمين توزيع عادل، تم اعتماد 4 مؤشرات يخضع لها هذا التوزيع:
- مساحة القضاء: 1/10
- عدد السكان المسجلين: 1/10
- تحصيل الرسوم: 4/10 (لتحفيز الجباية)
- مؤشر واقع التنمية: 4/10
وبحسب هذا المؤشر الأخير، فإن المنطقة التي تعاني من واقع تنموي منخفض، تحصل على نسبة مرتفعة من المبالغ المخصصة لمشاريع تنموية. هذا كله لامركزية مالية! فهل هي تقسيم؟ أم إنها تؤدي، بالعكس، إلى الإنماء المتوازن الذي بات منذ 1990 موجبا دستوريا؟ لذلك تبقى العبرة في المضمون الذي سيعطيه القانون لللامركزية، لا في العنوان.
أين هو الحد الفاصل اقتصادياً بين اللامركزية والفدرالية؟
في القانون الدستوري، يقول الفقهاء إن الفرق بينهما هو في طبيعة كل منهما وليس في الدرجة (c’est une différence de nature, non de degré). وبالفعل، ليست الفدرالية درجة أعلى أو اللامركزية درجة ادنى، لأن لكل من النظامين إطاره المختلف جذرياً عن الآخر. ولكن ما يجمع بينهما هو تموضعهما معاً بمواجهة السلطة المركزية بمعناها السلطوي الممسك بكل شيء والذي يتلطف على المناطق إما لقاء ولاء سياسي أو تبعاً لاستنساب مطلق. إقتصادياً، يقوم النظام الفدرالي على هوامش واسعة جداً للمناطق تصل إلى حد التشريع، لأن كل منطقة تتمتع بمجلس تشريعي وتكاد تكون الضرائب الفدرالية الاستثناء بمقابل الضرائب المحلية. ولكن في الفدرالية كما في اللامركزية، تبقى السياسة النقدية والخطط الاقتصادية الوطنية في يد المركز. عموماً، هوامش الصلاحيات والواردات تبقى أوسع في الأنظمة الفدرالية.