لم يعد خافياً أنّ جميع اللاعبين على الطاولة الحكومية استنفدوا حظوظهم ودخلوا في مقامرات مكشوفة ورهانات مفتوحة على كافة احتمالات الربح والخسارة والمقايضة بين الأوراق الرئاسية والوزارية والنيابية على قاعدة "خذ وهات"... فبعدما سقط الرهان على "لقاء الاستقلال" الرئاسي، وأوصد القضاء أبوابه في وجه رهانات القمع والقبع تحت طائل التهديد والوعيد، لم يعد أمام أركان الحكم والحكومة سوى عقد الآمال على أن يشكل مجلس النواب "خشبة الخلاص" من المحقق العدلي في جريمة انفجار المرفأ القاضي طارق البيطار، مع ما يرافق ذلك من كباش سياسي ونيابي على حلبة النصاب والميثاقية.
وغداة عودته إلى بيروت، سارع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى "عين التينة" لتقفي أي أثر إيجابي يقوده إلى استئناف جلسات مجلس الوزراء، محاولاً استمالة رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى ضرورة مساعدته في أن يصدق الوعد بالدعوة إلى انعقاد الحكومة "نهاية الأسبوع على أن يشارك فيها بعض الوزراء الشيعة ويقاطع بعض آخر" وفق ما كشفت مصادر مطلعة على أجواء اللقاء، لكنّ بري بقي متمسكاً بموقف الثنائي الداعي إلى "حل موضوع البيطار أولاً". وفي ضوء ذلك، رأت أوساط سياسية أنّ أعمال الحكومة ستبقى معلّقة ومصيرها أصبح عالقاً بين كماشة إبرام "تسوية" نيابية ينتج عنها إحالة المدعى عليهم من النواب والوزراء والرؤساء في قضية انفجار المرفأ إلى لجنة تحقيق برلمانية، وما يقتضيه ذلك من إبرام "مقايضة" مع "التيار الوطني الحر" يؤمن من خلالها الميثاقية المسيحية التشريعية لتمرير إنشاء اللجنة، مقابل تحقيق مكتسبات انتخابية، لا سيما في ما يتعلق بتعديلات قانون الانتخاب وعملية حصر اقتراع المغتربين بالمقاعد القارية الستة.
وعلى هذا الأساس، من المتوقع أن تتكثف المشاورات الرئاسية والسياسية على خط السراي – عين التينة – ميرنا الشالوحي خلال الساعات والأيام القليلة المقبلة لبلورة الخطوط العريضة للمقايضة المنشودة، خصوصاً وأنّ مصادر نيابية كشفت لـ"نداء الوطن" أنّ "رئيس المجلس النيابي سيدعو قريباً الى جلسة تشريعية، قد تكون الأسبوع المقبل، لإقرار سلسلة من القوانين"، وإذا نضجت التسوية لتشكيل لجنة التحقيق البرلمانية في قضية المرفأ، وقرّر "التيار الوطني" مشاركة نوابه في الجلسة لتأمين الميثاقية المسيحية (في ظل مقاطعة القوات اللبنانية) يطرح عندها بري البند على التصويت.
وعلى ضفاف المشهد، أكمل رئيس الجمهورية ميشال عون دورة الأزمات المتناسلة اقتصادياً ومعيشياً وحكومياً وقضائياً وتشريعياً، بإدخاله الاستحقاق الرئاسي في دهاليز متشعّبة من الألغاز والأحاجي، عبر تصريحات وتلميحات حمّالة للأوجه إزاء مصير كرسي بعبدا بعد انتهاء عهده.
فمن تأكيده رفض توقيع أي مرسوم لدعوة الهيئات الناخبة ما لم يتلاءم مع أجندة المواعيد التي يراها مناسبة لإجراء الاستحقاق النيابي، إلى تحديده المعايير الواجب توافرها في شخصية ومواصفات خلفه في كرسي الرئاسة الأولى، والإفصاح عن عزمه عدم تسليم قصر بعبدا إلى "الفراغ" في حال نهاية ولايته وتعذر انتخاب رئيس جديد، بالتوازي مع تشكيكه بدستورية انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء في ظل حكومة تصريف أعمال، وصولاً بالأمس إلى تسويقه من الدوحة لفكرة البقاء لولاية رئاسية ثانية بطلب من المجلس النيابي... رصدت مصادر سياسية "كلمات متقاطعة بين السطور يحاول من خلالها عون تحضير الأرضية لصفقة نيابية – رئاسية تقوم على معادلة: إما أسلّم بيدي مقاليد الرئاسة لجبران باسيل أو أمدّد ولايتي لتجنّب الشغور الرئاسي".
ومن هذا المنطلق، رأت المصادر أنّ تصريحات رئيس الجمهورية الأخيرة تسير على "خط بياني واضح المعالم يسعى إلى شبك الاستحقاقات الدستورية في سلة تسويات واحدة"، تهدف بشكل خاص إلى استدراج "حزب الله" إلى تقديم "وعد رئاسي مماثل لذاك الذي قطعه الحزب لإيصال عون إلى قصر بعبدا، على أن يضمن هذه المرة إيصال باسيل إلى القصر مقابل مقايضات بدأت تلوح في الأفق قضائياً وانتخابياً على المستوى الداخلي، واستراتيجياً على المستوى الخارجي، سيّما في ضوء أوراق الاعتماد المتراكمة التي يقدمها رئيس "التيار الوطني الحر" في سبيل طمأنة "حزب الله" وآخرها إبداء جهوزيته بأعلى صوت للتصدي لكل من يقول إنّ لبنان محتل إيرانياً"، فضلاً عن "نيران الإسناد" التي يواصل رئيس الجمهورية نفسه إطلاقها على جبهة المعركة مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، سواءً من خلال مجاراته الاتجاه الرافض لفرض استقالة أو إقالة الوزير جورج قرداحي، أو عبر محاولته الواضحة لتبرير عدم اتخاذ أي إجراء بحق قرداحي بعد تصريحاته الداعمة للحوثيين ضد السعودية بقوله لقناة "الجزيرة" القطرية أمس: "عندما أهانني صحفي سعودي على الهواء لم يُتخذ بحقه أي إجراء".