هيام القصيفي
دخل رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس سعد الحريري معاً في التسوية الرئاسية التي خرج منها الأخير في منتصف الولاية، وقد تكون خطوته التالية الخروج من الحياة السياسية، في وقت يرسم فيه عون سنته الأخيرة بمزيد من التمسّك بها.
رغم تكرار الكلام السعودي عن عدم الاهتمام بالوضع اللبناني، إلا أن العارفين بما يدور في بعض الدوائر السعودية يردّدون، باستمرار، كلاماً عن رغبة لدى الرياض، عشية الانتخابات النيابية، في استعادة مشهد التحالفات بين أصدقائها في لبنان. وهؤلاء الحلفاء هم، بطبيعة الحال، تيار المستقبل والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي. الاشتراكي والقوات باتا على أهبة صوغ تفاهمات انتخابية، تنطلق من واقع انسجام القاعدة الاشتراكية مع فكرة التفاهم مع القوات بدل الالتقاء مع التيار الوطني الحر. فيما ينتظر المستقبل حسم الرئيس سعد الحريري خياره، وسط تساؤلات عن موقف الرياض من احتمال عزوفه عن خوض الغمار السياسي والانتخابي، رغم معرفته بموقف الرياض الميّال الى تفاهمات تعيد التذكير بحلف عامَي 2005 و2009، وهذا ما يُحتمل أن يزيد أعباءه الكثيرة ومتاعبه معها.
لكن الانتخابات والتحالفات، على أهميتها، تبقى واحداً من متفرعات الأزمة الأساسية التي أفرزت في السنة الأخيرة من العهد مشهداً معبّراً في دلالاته. فما قد يقوم به الحريري من خطوة حاسمة في تاريخ الإرث السياسي، بعزوفه عن الترشح واعتزال العمل السياسي، يأتي في وقت يطرح فيه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون استكمال عمله حتى ما بعد انتهاء ولايته، فيرسم معالم السنة الأخيرة وما بعدها، وكأنه لا يزال في أوج صعوده السياسي. وفي هذه المقارنة يكمن الكثير من المفارقات بين الرجلين. فالحريري وريث مرحلة سياسية وعائلية، لا يترك خليفة له بالمعنى المباشر لتولّي إرثه السياسي، بل يتخلّى عن مرحلة حافلة بالنجاحات والإخفاقات لمصلحة الابتعاد عن كل ما أفرزته سنوات 2005 وما تلاها من تحالفات وخصومات. فيما عون الآتي من خارج النادي والوراثة العائلية، لا يرغب في الخروج «المبكر» من الحياة السياسية، واضعاً في الوقت ذاته معالم المرحلة المقبلة، ومحدداً بدقة وراثته، وغير متردد في التمسك بها والعمل لأجلها، من دون الأخذ في الاعتبار أيّاً من التحديات التي قد تواجهه. وهذه السلوكيات المختلفة في العمل السياسي، ستجعل من احتمالات خروج الحريري من المشهد السياسي وبقاء عون فيه، أكثر انتظارات العهد في سنته الأخيرة، لأن في الحدثين تحديات وهواجس من تداعيات لن تكون سهلة على المستوى الطائفي والوطني.
ففي خروج الأول، تُطرح سلّة استحقاقات تتعلّق بالطائفة السنية أولاً وأخيراً، لجهة تحديد الخلافة السياسية بعدما سيطرت عائلة الحريري على الواقع السني منذ التسعينيّات، وصنعت سياسيين ومستشارين ونواباً ووزراء وأمنيين، وأطفأت بريق آخرين. وسيؤثر في وضعية تيار المستقبل وقاعدته من الشمال الى بيروت والبقاع ووراثتها السياسية في غياب زعامته، علماً بأن لوائح المرشحين كثيرة، لكن المشكلة أن الزعامات لا تولد فجأة وتحتاج إلى الكثير من المال والدراية والوقت. وكذلك في انفلاش القوى السنية الموالية لقوى الثامن من آذار، ومن ثم في الاتجاهات التي سيسلكها حلفاء الحريري، السابقون والحاليون، في تعاطيهم مع مثل هذا الاحتمال. وهذه التحديات ليست قليلة، لأنها ستضع الجميع أمام مرحلة حساسة، ولا سيّما أن خطوة الحريري، إذا حصلت، ستتم قبل استحقاق الانتخابات المصيرية لمعارضي العهد وحزب الله. والأشهر الفاصلة عن الانتخابات لا تكفي لبناء قيادات جديدة والعمل على استنهاض شارع سنّي مع كل تحالفاته من أجل خوض الانتخابات وتحقيق إنجازات يمكن الاعتداد بها.
في المقابل، فإن أي كلام يفهم منه أن عون قد يبقى متصدّراً المشهد السياسي، من شأنه قلب موازين الواقع المسيحي، ويعيد عملانياً التشنّجات إلى الأرض. وبحسب معلومات، فإن مراجع دينية ناقشت مع شخصيات معروفة، نيابية وقيادية، الخيارات التي يمكن أن يلجأ إليها عون بعد انتهاء ولايته. ومجرد نقاش الاحتمالات أمر يثير القلق، لأن أي تلميحات يجري الحديث عنها من الآن تفتح الأبواب أمام سلوكيات غير سويّة، وخصوصاً أن تجربة الثمانينيّات أثمرت ردود فعل على مستوى علاقة العونيين حينها ببكركي، وما ارتكب في حق البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، فضلاً عن الصراع الدموي مع القوات اللبنانية. وإذا كانت بكركي ترفض دوماً خروج رئيس الجمهورية تحت وطأة الضغط الشعبي أو استقالته، إلا أن البطريرك مار بشارة بطرس الراعي سيجد حكماً نفسه في صف المواجهة حيال أي خطوات تعتبرها بكركي غير دستورية. هذا عدا عن ردة فعل كل القوى المناوئة لعون داخل الشارع المسيحي.
والمفارقة في كل ما يجرى الحديث عنه من احتمالات على مستويَي عون والحريري، أنها تحمل الكثير من بالونات الاختبار، لكنها تحمل كذلك حقائق جدية، وخطورتها أنها بدأت تظلّل الانتخابات النيابية التي قد تكون الضحية الأولى لها... في انتظار أن تقول الأطراف الأخرى كلمتها في ما يرتسم في أفق السنة الأخيرة.