نقولا ناصيف
منذ نيلها الثقة في مجلس النواب في 20 أيلول، لم يُتح لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي الالتئام في مجلس الوزراء سوى ثلاث مرات، آخرها في 12 تشرين الأول. مذذاك كأنها غير موجودة. أفرقاؤها يخوضون معاركهم من خارجها، تارة في الشارع وطوراً في الإقليم
الإشارات الأكثر دلالة، سلبية بالذات، على ما أضحت عليه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، أن الصلاحيات الدستورية لرئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء لا تعدو وهماً وسراباً. ليس في وسعهما دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد، ولا وضع جدول أعماله، ولا التأكد من التئامه بالنصاب القانوني، ولا امتلاك غالبية وزارية تمكّنهما من ممارستهما صلاحياتهما، ولا أخيراً ضمان إمرار الجلسة من غير أن تنفجر. مع أنها ليست المرة الأولى، وقد خبرتها منذ ما بعد عام 2005 حكومات الرؤساء فؤاد السنيورة وسعد الحريري وتمام سلام، كل على نحو مختلف في ظروف متباينة، وصلت الآن إلى ميقاتي. قدّمت التجربة الحالية دليلاً إضافياً على حكم وسلطة يُداران بموازين القوى على الأرض، لا في مجلس الوزراء، ولا في متن دستور خائب.
رغم جرعات الدعم الدولية التي عاد بها رئيس الحكومة من مؤتمر المناخ في غلاسكو، جزمت بالوقوف إلى جانبه ومنعه من التنحّي والتعاطف معه في أزمة تدهور العلاقات اللبنانية ـ الخليجية، لم يسعه إلى الآن إيجاد طريقة للوصول إلى أسهل الحلول. وهو إقناع الثنائي الشيعي بالعودة إلى جلسات مجلس الوزراء. في غلاسكو سمع ميقاتي من المسؤولين الدوليين ثلاث نصائح بضرورة الإقدام عليها بلا تردّد: إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، التفاوض مع صندوق النقد الدولي، تجنب الفراغ الدستوري في البلاد أياً تكن وطأة الضغوط التي يجبهها. أما ما رام الحصول عليه، وقد تيقن صعوبته، فتمكّن الأميركيين والفرنسيين من فتح حوار بين لبنان والسعودية. بينما لا يزال الرئيس إيمانويل ماكرون ينتظر من الرياض موعداً لزيارتها ومقابلة ولي العهد محمد بن سلمان، امتنع الرئيس الأميركي جو بايدن عن تحديد موعد للاجتماع بولي العهد ما حال دون مشاركة الأخير في مؤتمر غلاسكو.
كلا فريقي الثنائي يؤكدان أنهما ليسا في وارد الاستقالة من الحكومة، إلا أن دون عودتهما إلى جلسات مجلس الوزراء عقبات، يصعب على رئيس الجمهورية ميشال عون، كما على ميقاتي، تذليلها: بينها ما لا يريدانه، وبينها ما لا يستطيعانه.
وطأة المشكلتين الراهنتين اللتين تسبّبتا في شلّ مجلس الوزراء، تحوّلتا بقدرة قادر إلى قضيتين شيعيتين، تجعل من المتعذّر حلهما ما لم يقدّم الثنائي بنفسه وخصوصاً حزب الله هذا الحلّ . للمفارقة أن الحلّ المقترح يدور من حول مخرج الإقالة الذي يصرّ عليها الثنائي في مسألة، ويرفضها بتصلّب في أخرى: يطلب إقالة المحقق العدلي طارق بيطار من ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، ويرفض إقالة - أو استقالة - وزير الإعلام جورج قرداحي من حكومة ميقاتي. لكل من هاتين الإقالتين معايير وضعها الثنائي لا يحيد عنها، باتت ملزمة للحكومة برمتها. الأكثر مدعاة للارتباك وتأكيد استعصاء الوصول إلى حلول للإقالتين، أنهما أضحيتا مرتبطتين بـ»هيبة» حزب الله في المعادلة الداخلية. قد يشبه المأزق الحالي سابقتين وضعتا حزب الله أمام امتحان الهيبة: أولاهما عام 2006 منذ الأيام الأولى لحرب تموز عندما اكتشف حكومة السنيورة تمثّل تهديداً خلفياً مباشراً له فيما هو يواجه القوات الإسرائيلية، قبل أن تسارع إلى الاصطفاف وراءه، إلى أن صفّى الحساب معها لاحقاً بتعطيل انعقادها والاعتصام في وسط بيروت. ثانيتهما مكمّلة للسابقة الأولى مع الحكومة نفسها بقرار 5 أيار 2008 الذي أفضى إلى 7 أيار في الشارع.
مسؤولو صندوق النقد لميقاتي: للإجراءات السعودية تتمة
مذذاك، لم يشعر حزب الله بأحدٍ جدّي متواطئ مسّ هيبته وعرّضه للتهديد. أكثر مَن حرص على هذه الهيبة من بين المفترض أنهم خصومه، كان الرئيس سعد الحريري بفكّ الاشتباك معه في قرارات المحكمة الدولية، وتجاهل الكلام عن سلاح حزب الله، وتحوّله المرشح الأفضل للوصول إلى السرايا بعدما بات الثنائي الشيعي الشريك الفعلي في صنع رئاسة الحكومة.
ما يواجهه حزب الله اليوم قريب من اختباري 2006 و2008. يشقّ عليه التساهل في كلا الملفين لسببين على الأقل: الأول أن أمينه العام السيّد حسن نصرالله كان السبّاق، بنبرة عالية عنيفة ومهدّدة، إلى مهاجمة المحقق العدلي والطعن في دوره وطلب إقالته على نحو صريح. لا يقلّ السبب الثاني عن الأول أهمية لارتباطه بمغزى قطيعة السعودية لبنان، وفرضها عقوبات عليه، كما لو أنها اعتراف بأنها صارت في مواجهة مباشرة مع حزب الله على أرضه. بذلك يمسي الحلّ المقترح باستقالة قرداحي هامشياً غير ذي شأن أو بال. يعلّق المشكلة ولا يحلها.
لدى حزب الله ذريعتان تحملانه على الاعتقاد أن المواجهة مفتوحة وكانت تحتاج إلى شرارة. مصدر الذريعة الأولى، تبعاً لمعلومات يملكها، إخفاق الحوار السعودي - الإيراني لمجرد وصوله إلى بند مناقشة حرب اليمن. طلب السعوديون الخوض فيه، فردّ الإيرانيون بأنهم غير معنيين، ناصحين محاوريهم بالاتصال بالحوثيين وحزب الله بصفتهما مرجعية الحل. سرعان ما وجد الحزب في الموقف الأخير لوزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في 30 تشرين الأول، غداة قطيعة حكومته مع لبنان، مكمن المشكلة وأصلها. دلّ الوزير السعودي على العلة: «هيمنة» حزب الله.
أما الذريعة الثانية، فتكمن بدورها في أن المملكة كانت سلفاً في صدد تصعيد الموقف والصدام مع لبنان. لم يكن انقضى يومان على بث المواقف التي أدلى بها قرداحي في 26 تشرين الأول، أمهل السفير السعودي في بيروت وليد البخاري السلطات اللبنانية في 28 تشرين الأول ما بين ثلاث إلى أربع ساعات لتقديم قرداحي اعتذاراً علنياً عن مواقفه، تحت طائلة إقفال السفارة للفور. قَبِل بتمديد المهلة إلى مساء 29 تشرين الأول عندما أعلنت المملكة استدعاء سفيرها وطرد السفير اللبناني من أراضيها. في اليوم التالي لإقفال السفارة أبوابها أتى موقف الوزير السعودي كي يرفع السقف إلى أعلى.
ما أضحت عليه الأزمة اليوم أنها تجاوزت استقالة قرداحي. تملك السلطات اللبنانية تصوّراً متواضعاً، غير مؤكد النتائج، لمعالجة محتملة: خروج وزير الإعلام من حكومة ميقاتي مؤشر أول لوقف توالي الإجراءات العقابية السعودية كما تصدّع العلاقة معها، ومحاولة عزل دول الخليج التي جارتها باتخاذ إجراءات مشابهة ـ وإن أقل وطأة ـ كالكويت والإمارات العربية المتحدة، بالتعويل عليهما لتخفيف وطأة التشنج، ومباشرة حوار جديد مع الرياض. في حسبان السلطات اللبنانية أن المملكة ماضية في تصلبها ورفضها أي حوار. ما سمعه ميقاتي في غلاسكو يعزز هذا الاستنتاج. مَن اجتمع بهم هناك، شجعوه على استقالة قرداحي كخطوة يمكن أن يؤمل بها. كان قد سمع ما هو أهم من ذلك من هؤلاء. من بينهم مسؤولو صندوق النقد الدولي بتأكيدهم له أن الإجراءات السعودية الأخيرة، المباشرة من دولة إلى دولة، ليست وحدها السلاح المتاح ولا آخر المطاف. ثمّة ما يسع المملكة أن تفعله من خلال صندوق النقد بفرض قيود وشروط ثقيلة على لبنان تضعف قدرته على التفاوض، وتغرقه في مزيد من التدهور.