خالد ابو شقرا
حَفَر الإنكماش ندوباً عميقة في "جسم" القطاع الخاص. مؤسّسات كثيرة ستقتلها جراحها، وقلّة ستكمل بعلامة فارقة. شركات التأمين واحدة من هذه الأعمال التي بدأت البحث عن "مهضّمات" بعدما استثمرت بالبلد حتى التخمة. فلا هي قادرة على "وجع" انهيار القدرة الشرائية وارتفاع تكاليف البوالص، ولا السوق بقادر على "بلع" الشركات الخمسين التي نمت وتوسّعت بشكل كبير.
يتقدم قطاع التأمين بالخسائر التي أصابته جراء الأزمة على غيره من القطاعات الانتاجية والخدماتية. فالأكلاف لم تقتصر على انخفاض حجمه وتراجع عدد زبائنه كغيره من القطاعات، إنما باضطراره إلى التعويض عن نفسه وعن غيره نتيجة الانهيار. فهو "تحمّل في فترة لا تتجاوز السنتين: تخلّف الدولة والمصارف عن سداد ودائعه وتوظيفاته في السندات، زيادة أعباء الإستشفاء بسبب جائحة كورونا، والتعويض عن "زلزال" انفجار المرفأ"، يقول الرئيس التنفيذي للشرق الاوسط وشمال أفريقيا في شركة Allianz "أليانز" أنطوان عيسى، وعلى الرغم من تأثير تسارع الانهيار وكبر حجمه السلبي على بعض الشركات، فانه "لا يوجد هناك إقتصاد يعيش من دون تأمين".
و"الازمة الاقتصادية التي تأخذ فئة من المؤمّنين في يد تعطي في اليد الثانية فرصاً بديلة"، يؤكد عيسى. و"هذا ما أثبتته السوق المصرية التي واجهت منذ نحو 5 سنوات انكماشاً اقتصادياً وتراجعاً في القدرة الشرائية. فعلى الرغم من الانخفاض النسبي للدخل القومي في مصر، وضعف التوعية لأهمية التأمين، والاقبال الضعيف على الاستثمار وشراء البوالص قبل الازمة، فقد شهدنا طلباً متزايداً على التأمين خلال وبعد الأزمة. والسبب يعود إلى أن الأشخاص القادرين يفضلون حماية أنفسهم وأصولهم سواء كانت سيارات أو منازل أو مؤسسات من الأخطار لعلمهم المسبق بعدم قدرتهم على التعويض في حال أصابها الضرر". وعليه يرى عيسى أنه "في فترات الإنكماش يدخل إلى السوق أشخاص جدد. خصوصاً إن كانوا يتقاضون دخلهم أو تصلهم تحويلات بالدولار النقدي. وهذه النسبة تقدر في السوق اللبناني ما بين 25 و30 في المئة يتقاضون الدولار النقدي ويتطلعون الى الحصول على المنتجات الجديدة بـ"الفريش دولار".
التأمين وقت الحادث
هذا الواقع سيزيد التنافسية في سوق التأمين بشكل كبير جداً. خصوصاً في المرحلة الأولى من الأزمة، وقبل دولرة الأقساط بشكل كامل. يرافقه، التوقع بانخفاض أعداد المؤمنين بشكل عام، واستشفائياً بشكل خاص من نحو 750 ألفاً إلى ما بين 350 و400 ألف مؤمن فقط. وبالتالي فان الشركات التي ستقدم التسهيلات بالدفع وتغطي المخاطر بنسبة 100 في المئة من دون تحميل المؤمن أي فروقات ستقطف السوق. وستجذب العملاء من غير شركات. وهذا ما "لا يمكن أن يتم من دون وضوح وشفافية"، يقول عيسى. فنحن مثلاً كنا من أوائل الشركات التي بدأت تقاضي البوالص باللولار، ودفعنا ثمنها خسارة ما بين 15 و17 في المئة من زبائننا، وتحديداً في الشريحة التي ليس بمقدرتها الدفع، والمستثمرون في التأمين على الحياة.
إلا أن همّنا كان تأمين التغطية الشاملة سواء كان في الحوادث أو الاستشفاء أو خلافه. إنطلاقاً من مبدأ التأمين الأساسي، فإن التأمين وقت الحادث وليس وقت تسديد الأقساط. وقتها كان تقاضي البوالص على سعر 1500 ليرة سيحتم على المؤمن تحمل الفرق. وهذا ما لم نرض به في الأمس، ولن نرضاه اليوم مع استمرار انهيار الليرة، حيث بدأنا منذ 4 أشهر برامج الفريش دولار. ذلك إلى جانب اتاحة في بعض القطاعات تسديد البوليصة مناصفة بين اللولار والدولار. إلا أنه حتى هذه المرحلة ستنتهي قريباً، ولن يبقى إلا التسديد بالدولار النقدي في حال أردنا التغطية مئة في المئة. فالاقتصاد لا يمكن أن يستمر بناء على عملة وهمية.
المستقبل للفريش دولار
هذا الواقع يترافق مع طلب المستشفيات من شركات التأمين التسديد 100 في المئة بالدولار النقدي عن الكثير من الأعمال الطبية، أو أقله 50 في المئة نقداً و50 في المئة لولار، أو بواسطة شيك مصرفي عن بقية الأعمال. إلا أن التوجه العام في التأمين الصحي هو للدولار النقدي، بحسب عيسى. و"بقدر ما تكون شركة التأمين تتمتع بالليونة لجهة القبول بالتسديد مناصفة بين اللولار والدولار، وبتنوع البرامج وسهولة تسديد ثمن البوالص.. بقدر ما تؤمن مصلحة زبائنها. إلا أنه في بعض الحالات لا يمكن إلا القبول بالدولار النقدي وذلك على غرار التأمين البحري على السفن أو الماكينات في المصانع. إذ لا ينفع المؤمن للتعويض عن الضرر إلا التأمين بشكل كامل بالدولار".
معيدو التأمين
عقبة جديدة قد تضاف على عمل شركات التأمين واستمراريتها تتمثل في ما يشاع عن إحجام معيدي التأمين الدخول إلى السوق اللبنانية. وذلك نتيجة الفوضى، وتقلص حجم السوق بشكل كبير، والشك بامكانية تسديد الشركات المتوجب عليها بعد إعلان الدولة التخلف عن الدفع. وبحسب عيسى فان المشكلة الأساسية لا تتمثل في حجم السوق. فهو لطالما كان صغيراً، لكنه جذاب، بسبب المهنية المرتفعة وارتباطه بأسواق المنطقة والتنوع ووعي شركات التأمين. إنما ظهرت المشكلة بعد انفجار المرفأ. "فطريقة تعاطي "جمعية شركات الضمان في لبنان" (ACAL)، وكيفية تعاملها مع الانفجار والتعويض عن الأضرار لم تلق استحساناً عند معيدي التأمين في الخارج. يضاف اليها عدم تسديد بعض الشركات المتوجبات منذ العام 2019 بسبب احتجاز الاموال في المصارف وصعوبة التحويل إلى الخارج. فازداد خوف المعيدين عن عجز بعض الشركات المحلية عن السداد في المستقبل. الامر الذي قد يؤثر على صورة لبنان والعلاقة المستقبلية مع بعض الشركات. كلما سرّعنا في الحل الاقتصادي عبر الاصلاحات وبمساعدة صندوق النقد الدولي كلما طوينا صفحة الانهيار أسرع. فمن المستحيل النهوض بقطاع التأمين وبقية القطاعات الانتاجية والخدماتية إذا بقي القطاع المصرفي على حاله"، يؤكد عيسى. فـ"الكل على السفينة نفسها وانقاذها من الغرق مسؤولية الجميع".
المعطيات جميعها تشير إلى أن ثلثي اللبنانيين سيفقدون القدرة على التأمين بعدما يتحول كلياً إلى الفريش دولار. أما الثلث المتبقي فهو لن يحصل على التأمين فحسب إنما سيلزم الشركات على إعادة الهيكلة بما يتناسب مع الواقع المستجد.