غريبة هي قدرة اللبنانيين على التأقلم. قد يراها البعض ضربا من ضروب التعقّل، حتّى يستطيع المواطن الاستمرار. قد يراها البعض الاخر ضربا من ضروب الاستسلام.
في الأيام الماضية، زادت المصارف من قيودها. أمعنت باغتصاب أموال مودعيها. ردّة الفعل؟ تأقلم جديد.
خرجت جمعيّة المصارف بتعميم يتّصف بالنكران. المصارف خفّضت سقف "المصروف الشهري" الذي تتصدّق به على مودعيها. بازار الارقام بدأ يتظهّر تباعا. 200 دولار كلّ اسبوع، 300 كلّ أسبوعين... 100 في مصارف أخرى.
"سقف المصروف"، ليس الثمرة الوحيدة لحالة النكران هذه. الـcapital control فرض فرضا. المصارف التي كانت تشارك في صنع السياسات لا بل تصنعها مرورا بالسلطة، باتت تحكم مباشرة.
وبقيت جمعيّة المصارف تتشدّق بعديّة "لا haircut"، ولكن مهلا! هذا ما يجب أن يكون عليه مطلب الناس!
ليست المشكلة الحقيقية وحدها في أن الكثيرين يزدادون فقرا، المشكلة أن البعض لا يزال يزداد غنى.
على الطبقات الشعبية، الطبقة الوسطى (سابقا) ومحدودي الدخل أن يطالبوا اليوم قبل الغد بالـhaircut. اقتطاع مدروس ومنظّم من ودائع "كبار القوم"، اولئك الذين، بالمناسبة، لا يزالون يزيدون أرباحهم، ويضاعفون ثرواتهم، في الوقت الذي لم يعد فيه خافيا على أحد الاتجاه الواضح لوقف سحب الدولار نهائيا بطريقة تدريجية، وتحويل الرواتب حتّى الى الليرة اللبنانية على الـ1517، ما يعني "حلق شعر" كامل لمحدودي الدخل!
الـhaircut يجب أن يكون مطلبا أساسيا بعد اليوم، والّا زاد اولئك تمعّنهم باغتصاب حقّ 4 ملايين لبناني بحدّ أدنى مقبول للعيش في هذا البلد.
الـhaircut المدروس يجب أن يكون مطلبا ضروريا اليوم، لا سيما وأنه لا يمكن الاستبشار خيرا من الحكومة الجديدة، التي بحسب ما سرّب عن بيانها الوزاري من مسودة (حاولت بالأمس التنصّل منها)، تنوي تشريع مصادرة اموال المودعين الصغار طبعا... فيما يبقى تحويل ودائع "كبار القوم من المودعين" الى الدولار واخراجها من البلاد سارحا وعين المصارف ترعاه!
المودعون الصغار، اذا، هم من اختارتهم جمعيّة المصارف كبش فداء. أمّا الحكومة، التي يعوّل عليها اليوم، لتمنع الانهيار، فيبدو أنها عازمة على ذلك فعلا... مسودة البيان الوزاري تبشّر جهارا بمنع انهيار "الاوليغارشية" الوقحة!
لكن لا حرج. لا يزال الشعب اللبناني يتأقلم مع كلّ اجراء جائر جديد يأتي على حسابه.
لا حرج. انحسرت موجة الاعتراضات على الاجراءات غير القانونية أو على الاقل تراجعت.
لا حرج. فاللبنانيون يحملون خيباتهم في جيوب معاطفهم القديمة. بعض الجيوب نخرها العثّ، حتّى باتت حتّى الخيبة تتسلّل منها وتتحوّل الى... تأقلم جديد.
فوحده غير العاقل لا يتأقلم. وحده يأبى التكيّف. وحده غير العاقل اليوم هو من يعوّل عليه ليعود الى الساحات ويطالب برفع اليد عن جنى عمر الغالبية و"قصّ شعر" الاوليغارشية. المطلوب: "مجنون يطالب وعاقل يسمع".