ميسم رزق
تطوّر كبير سُجل أمس من شأنه خلط الأوراق في ملف ترسيم الحدود البحرية، بعدما قررت الإدارة الأميركية إعتماد آموس هوكشتاين وسيطاً في مفاوضات الترسيم البحري بدلاً من جون ديروشيه. فيما «تعسّ» الخلافات بين المسؤولين اللبنانيين حول الملف من دون أن يكون للبنان موقف واضح في ما يتعلق بالمنطقة «المتنازع عليها».
عُلِّقت عملية التفاوض غير المباشر بين لبنان والعدو الإسرائيلي على ترسيم الحدود البحرية جنوباً، في أيار الماضي. مِن يومها، بدأ الكيان الاستثمار في الوقت، إلى أن تحين ظروف العودة مجدداً إلى طاولة الناقورة. أما في لبنان، فغُيّب الملف وطغت عليه الأزمات المالية – المعيشية، فضلاً عن أزمة تأليف الحكومة، قبلَ أن تستفيق الدولة على ورشة حفر عند الخط 29، ما استدعى اللجوء إلى الأمم المتحدة، للتأكد مما إذا كانَ العمل يتمّ في المنطقة «المتنازع عليها». مضى أسبوعان من دون أن يأتي الجواب الدولي. وفي الانتظار، طرأ تطور من شأنه أن يخلط جميع الأوراق في ملف الترسيم، مقابل عودة الخلافات بين الجهات اللبنانية على إدارة الملف، إذ تشهد غرف الاجتماعات سجالات لم تتظّهر، لكن حدة التوتر قد ترتفع على نحو مفاجئ، إذا لم يجر احتواؤها.
فقد علمت «الأخبار» أن الإدارة الأميركية، قررت استبدال وسيطها في مفاوضات الناقورة السفير جون ديروشيه، بالمستشار السابق للرئيس الأميركي جو بايدن في مجال الطاقة الدولية، آموس هوكشتاين. القرار الأميركي لم تتبلغ به الا دائرة محدودة جداً في لبنان. أما خطورته فتكمن في أن هوكشتاين هو صاحب فكرة «تجاهل الخطوط، والذهاب الى التفاوض مباشرة على الحقول المشتركة تحت البحر وتقاسم الأرباح من خلال شركة تدير المنطقة المتنازع عليها»، ما يعتبر خطوة أولى على طريق التطبيع الإقتصادي مع العدو الإسرائيلي. كما أنه يحمل الجنسية الإسرائيلية وخدم في جيش العدو بينَ العامين 1992 و1995.
في لبنان، وقبيل تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، قيلَ الكثير عن ملف الترسيم بوصفه واحداً من بنود «التسوية الحكومية»، وأن بعض الأطراف في لبنان وعدَت بحله. وعلى رغم أن لا معلومات مؤكدة بعد، إلا أن بعض الوقائع تشي بأن الطريقة التي تُدار فيها الأمور تستهدف استمالة الخارج لتحريك الملف.
منذ فترة، تبيّن أن ميقاتي مهتم ضمنياً بملف ترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة. لم يفاتِح رئيس الحكومة أحداً بما ينوي فعله أو عمّا إذا كانَ لديه تصوّر ما بشأنه. لكنه فاجأ الجميع بتعيين العقيد الركن جوزيف سركيس مستشاراً له. وسركيس نفسه، ومعه اللواء عبد الرحمن شحيتلي، يُعتبران من مؤسّسي الخلل الذي ارتُكب عام 2011 حين اعتمد الخط 23، بعدَ احتساب جزيرة «تخيليت». وهو من كانَ يحضر – ممثلاً قيادة الجيش – اجتماعات لجنة الأشغال النيابية قبلَ إنجاز المرسوم 6433، الذي اعتبر بأن حق لبنان هو 863 كيلومتراً مربعاً، وجرى إيداعه لدى الأمم المتحدة. كانت تلكَ أول رسالة مشفّرة فُسرت بميل ميقاتي إلى تثبيت الخط 23، علماً أن التوقعات تقول بأن انطلاق التفاوض من هذا الخط يعني العودة إلى «حل هوف» الذي رُسم وفقاً لمبدأ 55 في المئة و45 في المئة. مع الإشارة إلى أن السفير الأميركي السابق فريديريك هوف الذي رعى المفاوضات بين لبنان و«إسرائيل» قبلَ الإعلان عن اتفاق الإطار، تعامل لفترة مع سركيس، ووصفه في أحد المقالات التي نشرت في مجلة «نيوزلاين»، بأنه «أحد أكثر الأفراد تميّزاً على المستوى المهني بين الذين التقيتهم».
وصلَ خبر سركيس إلى بعبدا، فلم يستسِغه رئيس الجمهورية ميشال عون. علماً أن الأخير يتقاطع مع رأي رئيس الحكومة في ما خصّ تعديل المرسوم وتثبيت حق لبنان في مساحة الـ 1430 كيلومتراً، وإن اختلفت الأسباب. ففريق رئيس الجمهورية يدّعي أن «عون يتأنى بالتعديل لأن لديه بعض الهواجس من تداعيات هذا الأمر، قد تصل إلى شنّ إسرائيل حرباً على لبنان»، بينما رئيس الحكومة لا يريد إزعاج الأميركيين. والخلاصة أن «بند تعديل المرسوم لن يُدرج على جدول أعمال مجلس الوزراء، أقله قبلَ الاتفاق السياسي عليه». فحتى رئيس مجلس النواب نبيه بري، رفض تعديل المرسوم حينَ تحمّس له عون سابقاً، وأبلغَ من التقى بهم ضرورة الالتزام باتفاق الإطار، واعتبار الخط 29 خطاً تفاوضياً لا حقوقياً يُمكن الانطلاق منه خلال المفاوضات، على اعتبار «أننا إذا حصلنا الـ 860 كلم، فبيتنا بالقلعة».
وعلى مدى اليومين الماضيين، ظهرت إشارات تُبشّر بـ «مشكل» جديد مع تحميل رسائل تتعلّق بالتمديد لرئيس الوفد العسكري اللبناني المفاوض العميد بسام ياسين الذي يُحال إلى التقاعد في تشرين الأول المقبل. إذ بعدَ الحديث عن طلب قائد الجيش العماد جوزيف عون من وزير الدفاع موريس سليم تمديداً استثنائياً لياسين، أفادت المعلومات بأن رئيس الجمهورية غير مقتنِع بالأمر، حتى الآن. وهذا ما أعاد إلى الأذهان «أسطوانة» الوفد المدني التي سبقَ أن تسببت باشتباك بين عون من جهة وحزب الله وحركة أمل من جهة أخرى قبلَ انطلاق المفاوضات في الناقورة. آنذاك، كان عون يريد لمدير عام القصر الجمهوري أنطوان شقير أن يترأس الوفد، وتضمينه شخصية ديبلوماسية. ويعتبر البعض بأن «رفض التمديد مرتبط بطرح جديد، هو إعادة تأليف وفد سياسي – دبلوماسي للتفاوض»، وهو طرح سجالي، بخاصة أنه بالنسبة إلى حزب الله «غير قابِل للنقاش» حتى.
هذه الأمور، لا تزال جميعها تحت الرماد، لكنها بدأت تتسبب بخلاف بين القوى السياسية والجيش من جهة، وبين القوى السياسية نفسها من جهة أخرى.
وبين من يقول بأن «لبنان يريد أن يعطي إشارة للأميركيين تحمِل بعض الليونة، ظناً بأن ذلك يعيد العدو الإسرائيلي إلى طاولة المفاوضات، على اعتبار أن لبنان يحتاج للتنقيب عن النفط في ظل الأزمة الخانقة التي يمُر بها»، ومن يتهم بعض القوى السياسية بأنها «تسعى إلى 17 أيار بحري»، فإن الخلاصة الوحيدة التي تستشفّ من إدارة الملف هي أن «العدو الإسرائيلي سارح على الحدود، وماضٍ في التنقيب لأن لا شيء رسمياً يردعه». الدولة اللبنانية لم تتبنّ طرح الجيش بموضوع تعديل المرسوم، مع أن المعنيين يسجلون اعتراضاً على الأعمال الإسرائيلية، على اعتبار أنها «تحصل في منطقة متنازع عليها»، وفق ما يقولون في تصريحاتهم. فلماذا لا تتخذ الدولة موقفاً واضحاً، إما بتعديل المرسوم أو القول علناً إنها تتراجع عن الخط 29، وأن الموقف الرسمي للبنان يعتبر الخط 23 هو المعتمد. والأهم كيف ستتعامل الدولة اللبنانية مع القرار الأميركي الجديد حيث لا مجال للتردد!