يصعب تجاوز دخول القوات اللبنانية، في فترة قصيرة، إلى دائرة الضوء بعد تصاعد الحملات السياسية ضدّها. القضية، هنا، تتجاوز العقائد والأفكار السياسية، لتشكّل عيّنة عن معارك سياسية طاحنة استعداداً للانتخابات المقبلة
دخلت القوى السياسية فعلياً، بعد تأليف الحكومة، مرحلة الانتخابات النيابية. كلّ تصريحات قادتها ومسؤوليها وخطب جلسة مناقشة البيان الوزاري تصبّ في إطار استثمار الجو المحموم لبناء قاعدة مواجهة، تحضيراً للمنافسة الانتخابية.
إلا أن المشهدية اللافتة تتعلّق بتصويب الأنظار على القوات اللبنانية، حتى يكاد التعاطي معها منذ ما قبل تسوية تشكيل الحكومة يشبه في بعض ملامحه التعاطي معها في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف وانتخابات عام 1992. هذا الانطباع يسود في أوساط سياسية رافقت تلك المرحلة. وهي تلفت إليه، ليس في إطار الدفاع عن الحزب الذي ارتكب سلسلة أخطاء في ممارسته السياسية، بل استناداً إلى ملاحظات واقعية تعيد التذكير بتلك الوقائع.
ورغم أن أوجه الشبه كثيرة، فإن الاستثناء اللافت هو أن ما يجري اليوم يتمّ بمشاركة فريق مسيحي أساسي (التيار الوطني الحر) سبق أن تعرّض للتطويق نفسه بعد عام 1990 ونفي العماد ميشال عون إلى فرنسا. لذلك، ليس تفصيلاً ما يحصل بين الطرفين منذ أشهر، وأن يحوّل رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل جلسة مناقشة البيان الوزاري، في جلسة نيابية عامة، للهجوم على القوات في موضوع «شركات الصقر» المرجّح للتفاعل أكثر فأكثر، كما يظهر تباعاً.
تصرّفت القوات إزاء تأليف الحكومة وسرعة إنجازها وأسلوب التعاطي الأميركي والفرنسي معها، وكأنها تلقّت صدمة قوية، وهو ما انعكس في نفي رئيسها سمير جعجع حصول رئيس الجمهورية على الثلث المعطّل. علماً أن القوات تعرف جيداً أن الحكومة تبدو وكأنها كلّها ثلث معطل، بدءاً من رئيسها نجيب ميقاتي الأقرب إلى خط 8 آذار، وصولاً إلى حصص الأحزاب الممثّلة فيها. وقد بدا جعجع وكأنه أُخذ على حين غرّة في تشكيل الحكومة بعدما ركن إلى أن الفيتو الأميركي لا يزال مرفوعاً في وجهها.
تحاول القوات، منذ تكليف الرئيس سعد الحريري ومن ثمّ اعتذاره وتكليف ميقاتي وتشكيله الحكومة، التصرّف وكأنها خارج السياق العام للأزمة الراهنة، وأنها بمهادنتها لقوى سياسية - ومنها حزب الله - تحيّد نفسها وتستعدّ لخوض معركة الانتخابات النيابية لتحقيق فوز يمكّنها من الدخول إلى الانتخابات الرئاسية. لذلك تبدو وحيدة في مواجهة القوى السياسية المختلفة، تماماً كما حصل بعد الطائف الذي أيّدته ودافعت عنه قبل أن تجد نفسها وحيدة بلا مظلّة حماية لها. وهي اليوم تتعرّض لحملة سياسية متنوّعة من أكثر من طرف سياسي، أوّلهم الحكومة ورئيسها، وإن كان جعجع وميقاتي حاولا أكثر من مرة إظهار عدم الخلاف بينهما. فميقاتي تصرّف مع القوات على أنها لم تسمّه لرئاسة الحكومة، ولا تريد المشاركة فيها، لذا لم يبادر بالتواصل معها لإقناعها بالمشاركة، كما فعل في جلساته المباشرة أو بالواسطة مع التيار الوطني الحر الذي لم يسمّه لرئاسة الحكومة وابتزّه حتى الرمق الأخير بعدم إعطاء الثقة.
وتواجه القوات، في الوقت نفسه، هجوماً من تيار المستقبل الذي حاول - رغم كل ما يواجهه من ضغوط داخلية وخارجية أبعدته عن السرايا الحكومية - أن يُبقي خطوط وصل مع كل الأفرقاء، ما عداها. علماً أن بعضاً من تياره يضغط عبثاً في هذا الاتجاه. لكنّ الرئيس سعد الحريري ارتأى، بإيحاء من أوساط معروفة في تياره، بألّا يسارع إلى فتح طريق الحوار مع معراب التي لم تتحرك في المقابل لتخفيف وطأة التوتّر بينهما.
وتتعرّض القوات، من العهد وتياره، لحملة ظاهرها الانتخابات النيابية ومن ثمّ الرئاسية، لكنّ واقع الأمر أن المشروعين لا بد أن يصطدما كما اصطدما في التسعينيات لأسباب مختلفة إقليمية وداخلية، فكيف إذا كانت مصالح التيار الحالية متشعّبة، وفي عرفه أن سياسته انتصرت أخيراً كمحور إقليمي.
ولا يقف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط مع القوات إلا في لحظات عابرة، لا بل إنه عند المحطات الأساسية يقف في وجهها في شكل نافر، في مقابل تهدئته المناخات مع القصر الجمهوري رغم الاحتكاكات الدائمة بينهما.
والقوات، وإن كانت لا تتعرّض لحملة مباشرة من حزب الله، بل من مقرّبين منه وأحزاب حليفة ومن قاعدته (والمفارقة أن لا حملات متبادلة فاقعة مع الرئيس نبيه بري)، فإن ما يجري بعدما كان الحزب مؤيداً لوجوب مشاركتها في الحكومة وهو ما ترفضه منذ 17 تشرين، يجعل من الصعب القفز فوق السؤال: لماذا تتحول القوات في هذه المرحلة إلى دائرة الضوء، وما هي مصلحة تحويلها ضحية في شكل يتعدّى المناورات السياسية؟
الجواب السياسي لدى أكثر من طرف لا يتعدّى الانتخابات النيابية، أقله حتى الآن. فالقوى الحزبية، ومنها مسيحية، غطّت نفسها منذ 17 تشرين الأول، إما باستقالات والانضواء تحت مسمّيات المجتمع المدني وبدعم خارجي واضح، أو تحالف عائلات، وهذا أعطاها حصانة سياسية رغم أنه من المبكر الحكم على تحوّلها قوة جاذبة كبيرة، رغم ما تدفعه من أموال كما يحصل في حملاتها الإعلانية بآلاف الدولارات «الكاش». لكنّ القوات تحاول العمل، بدعم مالي سخيّ في الانتخابات، في الكواليس فلا تكشف أوراقها، في الترشيحات أو جسّ النبض الانتخابي وتلمّس اتجاهات الناخبين. هذا جزء من تكتيك سياسي مزمن أبعد من اللحظة. لكنّه في الوقت نفسه يثير لدى خصومها أسئلة ودوافع نحو استباق الاستحقاق الانتخابي بحملات سياسية مضادّة، قد يكون من المبكر الحكم من الآن إلى أي حدّ يمكن أن تنجح في تقزيم الأحجام الانتخابية. لكن ما يظهر إلى الآن أن هذه الحملات تساهم في تعزيز قاعدتها فتكاد تكون في نظرة عابرة حصانها الرابح قبل الوصول إلى خطّ النهاية.