ميسم رزق
غابَ ملف ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة عن اهتمامات الدولة اللبنانية، بعد جرى تمييعه في حسابات شخصية وسياسية. استفاد العدو الإسرائيلي من هذا السُبات لتثبيت أمر واقع في المنطقة التي يقول الجيش اللبناني إنها «متنازع عليها». واليوم استفاقت الدولة لترتكب خطأً جديداً، بعد تضييعها فرصة تمثلّت بتعديل المرسوم 6433 لتثبيت حق لبنان في مساحة 1430 كيلومتراً مربعاً إضافية.
أعلنَت شركة «هاليبرتون» الأميركية حصولها على ترخيص لبدء التنقيب عن النفط في المياه البحرية المحاذية للمنطقة الحدودية الجنوبية للبنان، بناءً على اتفاق مع شركة «إنِرجين» اليونانية وحكومة العدو الإسرائيلي. الشركة الأميركية ذكرت في بيان لها قبلَ أسبوع، عبرَ موقعها الرسمي، أنها أبرمت عقد خدمات متكاملة لتنفيذ بين ثلاث وخمس حفر، واستكمال حفر آبار لشركة «إنرجين»، التي تُركّز على تطوير الموارد في البحر الأبيض المتوسط وبحر الشمال.
هذا الخبر هو النتيجة الطبيعية لدولة «نائمة» عن ملف استراتيجي وحسّاس بهذا الحجم. فلولا «تغريدة» من رئيس الحزب الإشتراكي النائب وليد جنبلاط (من باب الإستهزاء لا من باب الحرص على مصالح لبنان) لما هبّت بالجهات الرسمية «غيرة الدين»، واستفاقت فجأة أن عليها التحرك لـ«ردع» العدو بـ «قوّة الدبلوماسية» عن استكمال أعمال الحفر في المنطقة التي يعتبرها الجيش اللبناني متنازعاً عليها. فالمؤسسة العسكرية سبق أن أعدت دراسات بيّنت ان مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة التي يحتلها العدو تبلُغ نحو 2290 كيلومتراً مربعاً (أي 1430 كيلومتراً مُضافة إلى الـ 860 كيلومتراً التي كانَ لبنان يُطالِب بها)، وبقيَت بحاجة إلى توقيع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لتعديل المرسوم 6433 وإرساله إلى الأمم المتحدة لتثبيت هذا الحق.
ردّة الفعل اللبنانية الرسمية على ما أعلنه جنبلاط بيّنت وكأن ما فعله العدو الصهيوني صادِم ومفاجئ. علماً أن التحضير لأعمال التنقيب في هذه المنطقة مكشوف منذ 7 أشهر. وفي آذار الماضي، وجّه وزير الخارجية اللبناني شربل وهبة، قبلَ استقالته من الحكومة، تحذيراً إلى سفيرة اليونان في بيروت كاترين فونتولاكي من أن تبدأ شركة «انرجين» العمل في حقل «كاريش» الذي أصبَح ضمن المنطقة المتنازع عليها مع «إسرائيل»، بعدَ أن طرح لبنان خطاً جديداً للتفاوض (خط النقطة الـ 29)». وذلِك بعدَ ورود معلومات إلى لبنان تتحدثّ عن أن «الشركة اليونانية، وهرباً من المخاطِر الأمنية في هذه المنطقة الحدودية ستُلّزم الأعمال إلى شركة أخرى».
يأتي هذا التطوّر بعد 5 أشهر من توقّف المفاوضات غير المباشرة بينَ لبنان و«إسرائيل»، بسبب إصرار الوفد العسكري – التقني اللبناني المفاوض في الناقورة على أن حدود لبنان هي الخط 29 وليسَ 23. وهو ما أثار استياء الوسيط الأميركي، واستدعى منه تدخلاً للضغط على الدولة اللبنانية من أجل العودة إلى التفاوض على مساحة الـ 860 كيلومتراً مربعة. غيرَ أن المُشكلة الأساسية، والتي يُمكن وصفها بنقطة ضعف لبنان، تمثّلت في الخلاف الداخلي على توقيع المرسوم 6433 الذي كانَ سيثّبت حق لبنان في المساحة الجديدة، ويحوّلها إلى منطقة متنازع عليها في ما لو جرى تعديله وإرساله إلى الأمم المتحدة. يومَها، أٌدخِل الملف في «المتاجرة» السياسية بينَ أطراف المنظومة. فشُنّت حملة كبيرة على وزير الأشغال ميشال نجار لعدم توقيعه المرسوم (يحتاج إلى توقيع وزيري الأشغال والخارجية)، نظراً لانتمائه السياسي إلى تيار المردة. وبعدَ توقيعه من الوزراء ورئيس الحكومة السابق حسان دياب، تحتَ ضغط اتهامهم بالعمالة والتفريط بحقوق لبنان البحرية، انتقلَ الملف إلى عهدة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي وضعه في الأدراج. آنذاك، كانَ مسؤولون أميركيون يتحركون على الخط. وإلى جانب السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا، حضرَ وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية، ديفيد هيل، إلى بيروت، والتقى عون معبّراً عن رفض بلاده تعديل المرسوم.
بعدَ الإعلان عن هذا التطوّر، استفاق لبنان، وطالبت الدولة مجلس الأمن بالتأكد من أن العقد الموقع بين «إسرائيل» والشركة الأميركية لا يشمل المنطقة المتنازع عليها. وطلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من وزير الخارجية عبدلله بو حبيب إجراء الإتصالات اللازمة مع الجهات الدولية المعنية لمنع «إسرائيل» من التنقيب. وقد بحث بو حبيب مع مسؤولين في السفارة الأميركية في بيروت العقد المُبرم بين الشركة والعدو الإسرائيلي، قبل أن تصدر الخارجية اللبنانية بياناً أعلنت فيه أن الوزير «تواصلَ مع مندوبة لبنان الدائمة في الأمم المتحدة أمل مدللي، ودول أخرى تدعم المباحثات البحرية، للتأكد من أن عقد الشركة لا يقع في منطقة متنازع عليها».
ما جرى بشأن الترسيم البحري والثروة النفطية يبدو عصياً على القبول. فطريقة إدارة الملف على مدى سنوات، تحمِل الكثير من الأخطاء التي يُمكن أن تُضيّع حق لبنان. وللدلالة على ذلِك، ينبغي التذكير بنقاط عدة تؤّكد أن لبنان يجني اليوم ثمار ما زرعه في العقد الأخير.
أولاً، يقول العارفون في وزارة الطاقة، إن «عمل الشركة اليونانية في هذه المنطقة، جنوب الخط 23، لم يبدأ منذ أشهر. فقد فازت بأعمال التلزيم عام 2013، ولم يتحرّك لبنان يومها. وقد توقفّت هذه الأعمال لفترة، بسبب وباء كورونا، وبالتزامن أعلن لبنان عن حدود جديدة (الخطّ 29)، ما دفع بالشركة إلى تلزيم الأعمال إلى الشركة الأميركية خوفاً من تطورات أمنية، أو نزاع قانوني دولي يُجمّد أعمالها ويتسبب لها بخسارة مالية». أضف أن «ذهاب لبنان اليوم الى توقيف أعمال التنقيب سيكّلفه أموالاً طائلة، لأن الشركة ستلجأ الى القانون الدولي ذاته، وتؤّكد أن لا شيء يُثبِت بأن المنطقة التي تعمَل فيها تدخل ضمن المنطقة المتنازع عليها، لأن لبنان هو من يدعي ذلِك».
ثانياً، وبحسب مصادر سياسية، فإن الرسالة التي بعثها لبنان الى الأمم المتحدة «تحمِل خطأً كبيراً جداً قد يؤدي الى نتيجة لغير مصلحتنا». فوزارة الخارجية طالبت الأمم المتحدة بالتأكد من أن عقد الشركة لا يقع في منطقة متنازع عليها. ماذا يعني ذلِك؟ يعني ببساطة أن «الأمم المتحدة ستعود الى الوثائق الموجودة بينَ يديها، أي المرسوم 6433 الذي سبقَ وأودعه لبنان بعهدتها، والذي يقول بأن حدود لبنان البحرية هي الخطّ 23، أي الـ 860 كيلومتراً، وبالتالي فإن الشركة تعمَل جنوب هذا الخط ولا يوجد أي تعدّ على مساحة لبنان، وذلك يعتبر بمثابة إعطاء الأمان للشركة لاستكمال أعمال التنقيب». وأشارت المصادر أن «وضع لبنان كانَ سيكون أقوى لو جرى تعديل المرسوم، وأُرسِلت نسخة جديدة إلى الأمم المتحدة تثبّت حقه بـ 1430 كيلومتراً إضافية. ساعتئذٍ كانَ بالإمكان أن يلجأ لبنان الى القانون الدولي لمنع الشركة من استكمال أعمال التنقيب».
في المقابل، أكدت مصادر «الخارجية» أنها تنتظر ردّ الأمم المتحدة «لكي نبني على الشيء مقتضاه». ولفتت إلى أن «ردّ الأمم المتحدة ليسَ ملزماً ولا مقدساً، والوزارة لا تتحمّل وحدها مسؤولية اتخاذ القرار، فهناك اليوم حكومة عليها أن تجتمِع لمناقشة التطورات وهي من تتخذ القرار مجتمعة».