حبيب معلوف
نصف دول العالم لا تلتزم بالمعايير الآمنة لتلوّث الهواء، وثلثها لا معايير لديها. نحو ستة ملايين ونصف مليون وفاة تُسجّل سنوياً حول العالم بسبب هذه المشكلة. «عَ العمياني»، ومن دون حاجة إلى قراءة أجهزة قياس تلوّث الهواء، فإن لبنان من ضمن هذه الدول، وربما بين أكثرها سوءاً، في غياب المعايير، وتفلّت القطاعات المسبّبة لتلوث الهواء، والغياب التام لـ«الدولة»
مرّ اليوم الدولي لنقاوة الهواء (أقرّته الأمم المتحدة عام 2019)، في السابع من أيلول، من دون ضجيج. علماً أن تلوث الهواء يشكّل الخطر البيئي الأكبر على الصحة البشرية، إذ أن 92% من سكان العالم يعيشون في أماكن تتجاوز فيها مستويات تلوث الهواء الحدود الآمنة. وتُسجّل سنوياً نحو ستة ملايين ونصف مليون حالة وفاة مبكرة بسبب تلوث الهواء داخل المباني وخارجها، خصوصاً في البلدان النامية حيث معظم الضحايا من النساء والأطفال وكبار السن، ولا سيما ضمن الفئات السكانية ذات الدخل المنخفض التي تتعرض لمستويات عالية من تلوث الهواء داخل المباني نتيجة للطهو والتدفئة بوقود الحطب والكيروسين. كما أشارت دراسات حديثة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة ومنظمة الصحة العالمية إلى وجود علاقة بين تفشّي فيروس «كورونا» وتلوث الهواء.
وليس لبنان استثناء هنا، شأنه شأن أكثر من ثلث دول العالم التي تفتقد الى معايير مُلزمة (أو لا تحترمها في حال وجودها) لنوعية الهواء الخارجي (المحيط). فقد أشار أول تقييم عالمي يجريه البرنامج للتشريعات الوطنية لنوعية الهواء في 194 بلداً، إلى أن نحو نصف بلدان العالم لا تلتزم معايير نوعية الهواء المحيط، وأن 31% منها لم تعتمد أيّ معايير. ورغم أن منظمة الصحة العالمية أعدّت قيماً توجيهية لنوعية الهواء المحيط، يلفت التقرير إلى غياب التوافق العالمي عليها والإطار القانوني المشترك لتطبيقها! أضف إلى ذلك، ضعف المؤسسات المسؤولة عن تطبيق المعايير (إذا وُجدت)، حيث لا تفرض سوى 33% من البلدان التزامات للوفاء بالمعايير المنصوص عليها قانوناً. ورغم أن الرصد يُعدّ أمراً بالغ الأهمية لمعرفة ما إذا كان قد تمّ تحقيق المعايير، بيّن التقرير أنه ليس ملزماً قانونياً في 37% على الأقل من البلدان. ومع أن تلوث الهواء لا يعرف حدوداً، فإن 31% فقط من البلدان لديها آليات قانونية لمعالجة تلوث الهواء عبر الحدود. وفي ظل ضعف التصدي لهذه المشكلة العالمية، يقدّر برنامج الأمم المتحدة للبيئة بأن أعداد الوفيات الناتجة عن تلوث الهواء ستشهد زيادة تتجاوز 50% في حلول عام 2050. ناهيك عما يرتّبه تلوث الهواء من تكاليف مرتفعة على المجتمع بسبب آثاره الضارّة على الاقتصاد وعلى إنتاجية العمل وتكاليف الرعاية الصحية والسياحة. كما أن بعض ملوثات الهواء مثل الكربون الأسود والميثان والأوزون السطحي فضلاً عن تسبّبها بنسبة كبيرة من الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء، لها آثار سلبية على المحاصيل وعلى الأمن الغذائي.
في لبنان، تمّ تحضير الإطار القانوني لحماية نوعية الهواء والمعايير المطلوبة ومسودة استراتيجية منذ زمن بعيد، بعد الحصول على مساعدات دولية في هذا المجال. إلا أن القانون الذي أُقرّ في هذا الشأن عام 2018 لم يُطبّق، نتيجة المناكفات والكيديات والصراع على السلطة والمال، ما فوّت الفرصة على لبنان لحماية نفسه. علماً أنه منذ إنشاء وزارة البيئة، بداية التسعينيات، أكّدت دراسات عدة أن تلوث الهواء أخطر موضوع بيئي قاتل، خصوصاً أنه يتمدّد خارج المدن الساحلية إلى ارتفاع أكثر من 800 متر عن سطح البحر، وهو مستوى ارتفاع الملوثات الداكنة التي يراها سكان الجبال بالعين المجردة، خصوصاً في أوقات الذروة حين ينحبس الهواء وترتفع درجات الحرارة.
ورغم أن الاتجاهات كانت واضحة لناحية تحديد القطاعات الأكثر تسبباً بتلوث الهواء، كقطاعَي إنتاج الطاقة (من المعامل والمولّدات الخاصة) والنقل، تضاف إليها (في السنوات الأخيرة) حرائق الأحراج، وتفلّت بعض الصناعات الثقيلة مثل المقالع والكسارات وشركات الترابة. إلا أن وزارة البيئة فشلت في وضع إطار استراتيجي للمعالجة يتضمن أولويات للمعالجة ويحدد المطلوب من كل إدارة ووزارة وقطاع لضبط الانبعاثات والتخفيف من التلوث. ويزيد الخطر مع تخوّف مصادر متابعة من تراجع مواصفات الوقود المستخدم في إنتاج الطاقة والنقل والزراعة والصناعة، بحجة تأمين الوقود الأرخص، وهذا ما سيترك مزيداً من الآثار السلبية على سلامة الهواء، خصوصاً أنه سيترافق مع زيادة عدد السيارات المستعملة وتراجع القدرة على شراء السيارات الجديدة وتراجع العمل في مراكز المعاينة الميكانيكية والتراخي في ضبط الآليات التي تُصدر انبعاثات على الطرقات.
برنامج الأمم المتحدة دعا الدول إلى اعتماد قوانين صارمة لنوعية الهواء، تشمل وضع معايير لكل من تلوث الهواء الداخلي والخارجي وتحسين الآليات القانونية لرصد نوعية الهواء، وزيادة الشفافية، وتعزيز الأنظمة التنفيذية، وتحسين السياسات والتنسيق التنظيمي لتلوث الهواء الوطني وعبر الحدود. مع الإشارة إلى أن تحسين نوعية الهواء الداخلي (داخل المنزل) والخارجي (داخل الوطن)، لا يؤدي إلى تحسين الصحة العامة فقط، بل يمكن أن يعزز التخفيف من آثار تغير المناخ على المستوى العالمي، إذ أن الإجراءات المطلوبة لمحاربة تغيّر المناخ هي نفسها المطلوبة لحماية الصحة العامة من تلوث الهواء «الوطني» وتخفيف الفاتورة الصحية.
أُحيل قانون حماية نوعية الهواء على مجلس النواب للمرة الأولى عام 2002، وأُقر في 13 نيسان 2018، بعدما تنقّل بين اللجان النيابية لمدة 16 عاماً.
وهو مرتبط بالتزام الدولة اللبنانية باتفاقيات وقّعت عليها وذات صلة، منها اتفاقية فيينا لحماية طبقة الأوزون، وبروتوكول مونتريال بشأن المواد المستنفدة لطبقة الأوزون، واتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ.
وكان تقرير للبنك الدولي في حزيران 2004 أشار إلى أن الكلفة الاقتصادية لتلوّث الهواء تصل إلى 1.02% من الناتج المحلّي يدفعها لبنان من الفاتورة الصحية وتدهور نوعية الهواء.
التخلّص من ملوّث واحد
الإنجاز العالمي الأول والأهم حتى الآن للتخفيف من تلوث الهواء، يتمثّل في القضاء على استخدام البنزين المحتوي على الرصاص، وهو ما يحول دون أكثر من 1.2 مليون حالة وفاة مبكرة، ويوفر 2.45 تريليون دولار سنوياً. إلا أن هذا الإنجاز لا يشكل سوى واحد في المئة من الإجراءات المطلوبة للتخفيف من تلوث الهواء، إذ تم التخلص من ملوّث واحد ناجم عن احتراق نوع واحد من الوقود هو البنزين، فيما هناك عشرات الملوّثات الناجمة عن احتراق الوقود على أنواعها.