لا كهرباء، لا مازوت، لا بنزين... لا اتفاق محسوماً بعد على تشكيل حكومة قريباً، رغم المؤشرات الإيجابية. القرار «المُفاجئ» برفع الدعم عن استيراد المحروقات، شكّل صدمة للمجتمع والاقتصاد، وعجزاً عن محاولة «التكيّف» معه. فأسوأ ما في هذا القرار أنّه اتُخذ من دون تصحيحٍ للأجور وتوفير مصادر طاقة بديلة، أو حتى بالحدّ الأدنى توزيع مساعدات نقدية وتأمين الكميات اللازمة من المحروقات. ويأتي ليؤكّد أنّ المعركة سياسية ومواجهتها لا تكون إلا بأدوات سياسية. فرياض سلامة والمنظومة الحاكمة تعمّدا قتل السكّان في لبنان، في مقابل تعزيز الزبائنية السياسية وسلطة الكارتلات والمحتكرين وأرباحهم
لبنان أُطفئ. على وقع قرارات حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، المحطات لا تبيع الوقود، ولا تُشغَّل المولّدات الكهربائية، ولا يُوزَّع الخبز، ولا تعمل مؤسسات. هي مرحلة جديدة من الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي - الأسوأ في العالم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية - و«تمتاز» بأنّها أكثر صعوبةً وخطورةً من كلّ ما شهده البلد في السنتين الماضيتين. في هذه المرحلة، لم تعد تنفع نظرية سلامة وبقية المسؤولين أنّ الناس «بكرا بيتعودوا» على هذا الذلّ. فالأمر ليس محصوراً بارتفاع أسعار المحروقات - المُدمّر للجزء الأكبر من الأفراد - بل بتعطيل كل حلقات الإنتاج والاقتصاد.
سياسة الأرض المحروقة يُنفذّها سلامة، بموافقة وتواطؤ مرجعيات سياسية. وهو حين أخبر المجلس المركزي لمصرف لبنان في آخر جلسةٍ له، نيّته التوقّف عن تأمين الدولارات لاستيراد المحروقات، قدّم لهم الموضوع من زاوية: «لم يعد لدينا ما يكفي من الدولارات. هل توافقون على الاستمرار في دعم الاستيراد والصرف من حساب التوظيفات الإلزامية، ومواجهة القضاء إذا ادّعى علينا نقيب المحامين وغيره، بتهمة المسّ بأموال المودعين؟». أخافهم بالملاحقة القانونية والسجن، مُتجنباً إخبارهم أنّ قراره ليس تقنياً ولا اقتصادياً ولا علاقة له بما إذا كان قد أهدر كلّ دولار في حساب التوظيفات الإلزامية - بما فيها الـ14 مليار دولار التي «لا تُمسّ» - أم لا، إنّما اتُّخذ عن قصدٍ ويندرج أولاً وأخيراً في السياسة. القرار مُتّخذ بعدم الاستفادة من الأزمة لإعادة بناء الاقتصاد وفق أُسس صحيحة، وعدم تطبيق حلول تُخفّف من التبعات على المُجتمع.
المعركة - غير المتكافئة - مُستمرة منذ تشرين الأول 2019، اشتدت مع تطيير لجنة المال والموازنة النيابية والمصارف ومصرف لبنان لخطة «الإصلاح المالي» لحكومة حسّان دياب، وبلغت أوجها في 11 آب. إنّها معركة توزيع الخسائر والدفاع عن «مُكتسبات» مالية وسياسية. من تسبّب بالأزمة يُريد تحميلها للطبقات المعدمة والمتوسطة. كيف حصل ذلك في السنتين الماضيتين؟ تفرّج سلامة على انهيار الليرة في صيف 2019 ولم يتدخّل لفرض الاستقرار. الطلب على الدولار من السوق من «المركزي» والمصارف بالتالي ارتفاع سعر الصرف، خلق أسعار صرف متعدّدة في مقابل الإبقاء على سعر الـ1507.5 في المعاملات المصرفية لتمكين المصارف ومصرف لبنان من إطفاء خسائرهما وتصحيح ميزانياتهما شكلياً، وتدمير القدرة الشرائية للأجور بالتزامن مع حجز أموال المودعين، وزيادة الدولرة في الاقتصاد، وتأمين البيئة السليمة للمُحتكرين حتى يحلّوا نهائياً مكان الدولة وزيادة أرباحهم غير المستحقة، وغياب المؤسسات العامة والجهات الرقابية عن تأمين مصلحة السكان. واليوم، يُريد سلامة تجفيف النقد بالليرة بين الناس، بداعي امتصاص الكتلة النقدية ولجم ارتفاع الأسعار، عبر إجبارها على الصرف من مُدخراتها بالدولار وتخفيف الاستهلاك، مُراهناً على أنّ ذلك قد يُخفّض سعر الصرف. إلا أنّ سلامة يتغاضى عن مسألتين: ارتفاع الكتلة النقدية لم يكن سبباً لانهيار الليرة ولم يتزامن مع ازدياد في السلع المعروضة والقدرات الشرائية، بل إن ارتفاع حجم النقد في التداول كانت نتيجة لانهيار سعر صرف الليرة وما لحق به من تضخّم في الأسعار. المسألة الثانية، أنّ ارتفاع أسعار المحروقات، بالتالي فاتورة المولدات والسلع والنقل، لن تؤثّر في أصحاب الثروات وذوي الدخل بالدولار، بل متوسطي الدخل والمُعدمين الذين لا يملكون عشرات آلاف الدولارات المُخزّنة في المنازل، حتى يتحمّس لـ«مُصادرتها». وبالتأكيد، تصريفها في السوق لن يُصحّح سعر الصرف، بل قرارات فعّالة من السلطة النقدية ووجود حكومة تملك سلطة تنفيذية حقيقية تبني «الدولة المُجتمعية»... ما ليس متوافراً.
القرار مُتّخذ بعدم تطبيق حلول تُخفّف من تبعات الانهيار
الحلّ بالنسبة إلى الرئيس ميشال عون كان بمحاولة إعادة تفعيل حكومة حسّان دياب، فدعا أمس مجلس الوزراء إلى الانعقاد «بصورة استثنائية للضرورة القصوى بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء في حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، في جلسة تُخصّص لمعالجة التداعيات والذيول الخطيرة لأسباب أزمة عدم توافر المشتقات النفطية على أنواعها في السوق المحلية وانقطاعها، وذلك استناداً إلى الفقرة 12 من المادة 53 من الدستور». ردّ دياب أتى متوقعاً لناحية تذكيره أنّ «الحكومة مستقيلة منذ 10 آب 2020، والتزاماً بنصّ المادة 64 من الدستور التي تحصر صلاحيات الحكومة المستقيلة بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال، ومنعاً لأي التباس، فإنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال لا يزال عند موقفه المبدئي بعدم خرق الدستور، بالتالي عدم دعوة مجلس الوزراء للاجتماع».
في الملفّ الحكومي، وعلى الرغم من الانهيار الشامل المُسيطر على البلد، وجد عون ورئيس الحكومة المُكلّف نجيب ميقاتي أنّه بإمكانهما ترحيل لقاءاتهما إلى الأسبوع المقبل، عوض تكثيف الاجتماعات والتوقّف عن إضاعة الوقت، والحسم: إما حكومة أو اعتذار عن التكليف. هل فعلاً هما يُريدان تأليف الحكومة، أم لا يزالان، ومن خلفهما بقية القوى السياسية، يُكابران على ما يجري في المجتمع والاقتصاد، ويبحثان عن كيفية تسجيل نقاط هامشية؟ ما يحرص الفريقان على تظهيره في العلن، هو أنّهما باتا في المرحلة الأخيرة السابقة إعلان التشكيلة الحكومية، بعد إنهاء توزيع الحقائب وإبقاء التوزيعة نفسها بالنسبة للحقائب المُصنفة سيادية. وفي المداولات السياسية الكثير من المؤشرات على أن الحكومة ستبصر النور قريباً. إلا أنّ مسؤولين معنيين بتفاصيل المشاورات الحكومية يؤكّدون أنّ «كلّ الإيجابية مُصطنعة، ولا يُمكن التعويل عليها. المعضلة هي في أنّ القوى الأساسية في التشكيل لم تتفّق في ما بينها على وجهة ما بعد تأليف الحكومة».