رلى ابراهيم
اتخذ رئيس التيار الوطني الحرّ قرار المواجهة بعد انحسار عاصفة 17 تشرين وما تلاها. الخطة السياسية القضائية الشعبية واضحة والعدوّ واحد: رئيس مجلس النواب نبيه بري. على هذه القاعدة، أحبط التيار ما يعتبره «محاولة بري رمي كرة رفع الدعم في ملعب ميشال عون وافتعال أزمة شبيهة لما جرى عند رفع تعرفة الواتساب»، فيما وجّه ما يسميه «صفعة لرئيس المجلس» عبر تطيير نصاب الجلسة النيابية أول من أمس. وما بين هذا وذاك، يخوض باسيل حرب وجود مع بري الذي يرى فيه رأس حربة في إسقاط كل القوانين الإصلاحية وكل الحكومات التي لا يرأسها سعد الحريري
بالنسبة إلى التيار الوطني الحر، انتفاضة 17 تشرين 2019 كانت بمثابة إعصار كبير، رتّب عليه محاولة الصمود حتى يمرّ الإعصار بأقل الأضرار الممكنة. يومها، اتخذ قرار بإقفال الأبواب والنوافذ... والانتظار. معركة الأحزاب السياسية المناهضة لرئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، معطوفة على هتافات الشارع المصوّبة بشكل خاص نحو الاثنين، كانت لها حسناتها في الميزان العوني، لا لشيء سوى أنها بدأت باكراً. فمنذ عامين، استنفد هؤلاء كل الشتائم والشعارات والعناوين السياسية التي يمكن أن تُستعمل ضد العهد وتياره، واستخدمت الأحزاب كل أوراقها وكل ما يمكن القيام به لإنهاء الحالة العونية. دام الأمر عاماً كاملاً، تخلّله انفجار 4 آب وما تلاه. المفترق الأساسي لدى قيادة التيار كان يوم إسقاط حكومة حسان دياب؛ ففي السابق، تركزّ همّ باسيل على صدّ العاصفة والبقاء حيّاً ولو بالحدّ الأدنى. لكن ما بعد 4 آب و«إقالة» الحكومة، صارت العناوين واضحة جدّاً بالنسبة إليه. مذذاك، بدأت معركة عونية موازية ببوصلة ذات توجّه واضح، لا صوب رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع أو رئيس تيار المردة سليمان فرنجية أو رئيس الحكومة السابق سعد الحريري أو غيره، بل نحو رئيس مجلس النواب نبيه بري حصراً. عندما انجلت الصورة، باتت الخطوة التالية غربلة المحاور: من في صفّ بري ومن هو في صفّ التيار. تنحدر الحلقة من المسؤولين السياسيين الى القضاة، وصولاً الى الضباط والمديرين العامين وكل العاملين في مراكز مؤثرة. لم يكن القرار مجرّد رفع سقف سياسي ينتهي بالوصول الى تسوية ما، بل وضع التيار كل أدواته على الطاولة لاستخدامها بهدوء وحذر في حربه المُعلنة جهاراً. لكن، لماذا بري دون غيره؟ لأنه، على ما يقول العونيون، «ضابط إيقاع المنظومة وموجّهها ورأسها المدبّر. ولأنه هو من خطّط وأدار ونفّذ الآتي:
1- تطيير حكومة حسان دياب.
2- تطيير قانون الكابيتال كونترول وكل القوانين الإصلاحية عندما كان الدولار يوازي 5 آلاف ليرة لبنانية، وكان يمكن تجنّب كل ما جرى من انهيار بعده.
3 - إسقاط خطة التعافي المالي الحكومية بمساعدة بعض النواب العونيين، التي لو أقرّت يومها لكانت البلاد على سكّة «تصفير حساباتها» والبدء من جديد.
4- دفع رئيس الحكومة المكلّف مصطفى أديب نحو الاستقالة عبر وضع فيتو على المالية.
5- تطيير التدقيق الجنائي ومحاولة تفريغه وإبطائه في البرلمان، ثم منع المضيّ به.
6- الإتيان بسعد الحريري رئيساً لحكومة وإنعاشه بالأوكسيجين لمدة 9 أشهر، مع إدراكه مسبقاً أن الحريري مقيّد اليدين ولا يمكنه تأليفها».
بري وباسيل على حلبة المواجهة
على طريقة «اِعرف عدوّك»، حدّد التيار عدوّه وبدأت رحلة البحث عن أطر وساحات المواجهة. هذه الاستراتيجية أرست استقراراً في الأرضية العونية وارتياحاً طال انتظاره، لتنطلق العجلة في اتجاهين: الأول، معارضة نقل ملف التحقيق في جريمة المرفأ الى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء والقيام بحملة مؤيدة لرفع الحصانات، وصولاً الى المساهمة في تطيير نصاب الجلسة النيابية الخميس الماضي. ما جرى، في ميزان التيار، هو «صفعة لبري: كنا رأس حربة في هذا الملف لثقتنا بالقاضي طارق بيطار، ولأننا نعارض بشدة أن يكون الطرف الحكم في هذا الملف، كل من بري وإيلي الفرزلي والدائرة المحيطة بهما. فيما القيمة المضافة التي حققناها هي نشوء نوع من الانفتاح مع أشخاص ليسوا مناصرين للتيار ولا في الحلقة الضيقة، بل بعضهم من أهالي الضحايا وبعضهم الآخر ممن ينشطون في الشارع ويمطروننا بالانتقادات.
طلبت غادة عون مساعدة أميركا وفرنسا وسويسرا في معرفة وجهة مليارَي دولار مهرّبة من دون أسماء
وجدنا أرضية مشتركة يمكن التفاهم حولها». أما الملف الثاني، فهو تحويل «الاستهداف الى مادة ترتدّ على أصحابها. فقد نجحنا في قلب سحر سلامة عليه عند تعمّده الإعلان عن رفع الدعم عن المحروقات بعد اجتماع المجلس الأعلى للدفاع برئاسة عون. جرى ذلك بالتزامن مع إطلاق القصر الجمهوري الدخان الأبيض لتأليف الحكومة». وهنا، العونيون «على أتمّ الثقة بأن بري هو المخطّط، وسلامة الأداة التنفيذية، فيما تركزت الخطة على أن يكون رفع الدعم هو النقطة التي تفيض معها الكأس فتنطلق 17 تشرين جديدة ضد العهد». لكن مسارعة التيار الى إسقاط «المؤامرة» عبر تغريدة لباسيل يُحمّل فيها سلامة تداعيات هذا الإجراء ويدعو الحكومة الى محاسبة سلامة، ورئيس الجمهورية الى الضرب على الطاولة، تلاها تحرّك ليلي لشباب التيار أمام منزل سلامة؛ جنّب باسيل جولة شتائم جديدة. فيما آثر رئيس التيار يوم أمس دعوة الحاكم وكل من يغطّونه سياسياً، وهو يقصد بهم بري بشكل رئيسي، ثم الحريري وجنبلاط، الى إيقاف الانفجار ورفع الدعم التدريجي الى حين إقرار البطاقة التمويلية. قابلها رئيس الجمهورية بدعوة مجلس الوزراء الى الانعقاد بصورة استثنائية للضرورة القصوى في جلسة تخصص لمعالجة تداعيات أزمة المحروقات، مع إشارته الى رفض سلامة الرجوع عن قراره، رغم كونه شخصاً من أشخاص القانون العام وأن الحكومة هي التي تضع السياسات العامة حتى خلال تصريف الأعمال بمعناه الضيّق. هذا الهجوم المضادّ والاستنفار العوني، ساهما، بشكل أو بآخر، «في دخول حلبة المواجهة بقوة وليس من موقع ضعيف ومستسلم كما جرت العادة»، بحسب مسؤولين في التيار.
ملفات غادة عون
قرار باسيل بالاستنفار والمواجهة بعد انحسار العاصفة، وردّ الحملات المقبلة بشراسة، يقابله عمل هادئ على الملفات القضائية؛ وأبرزها ملف تهريب الأموال الذي تتابعه القاضية غادة عون. فخلافاً لما يُشاع، يؤكد مسؤولون في التيار أن القاضية عون تتابع ما بدأته في ما يخص شركة مكتّف والأموال المهرّبة الى الخارج. وبحسب المعلومات، «استمعت عون يوم أمس الى الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف، فيما تغيّب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فحدّدت له جلسة أخرى يفترض أن تكون الأسبوع المقبل، وإذا لم يحضرها مجدداً، فستُصدر في حقه مذكرة إحضار». فبموازاة التحرك السياسي وفي الشارع، يعمل التيار على ملف قضائي بعيد عن الإعلام ويحاول أن يتجنب فيه أكثر الأخطاء الممكنة حتى يكون «مُبكّلاً» من جميع النواحي، على أن يجد اللحظة السياسية المناسبة للإعلان عنه. وقد تبيّن للقاضية عون خلال عملها أخيراً، على ما تقول المصادر، «تهريب شركة مكتف مليارَي دولار في الأشهر الأخيرة من عام 2019 وعام 2020، من دون أن تكون مصحوبة بأسماء، ما يعني أنها تدخل في إطار تبييض الأموال. وتلك الأموال هي غير الـ 750 مليون دولار التي حوّلها أحد المصارف. وبما أنه يصعب على عون اللحاق بمسار خروج هذه الأموال بمفردها، فقد طلبت مساعدة أميركية وفرنسية وسويسرية، فلم يصلها جواب إلا من سويسرا التي وعدت بأن تبحث بالأرقام والمعلومات المقدمة لها». بموازاة ذلك، تبيّن للقاضية عون أن سكة تهريب الأموال افتتحت بعد اعتقال الحريري في الرياض عام 2017، بشكل كبير ومنتظم. ملف تهريب الأموال، يقابله ملف لسلامة يعمل عليه مسؤولون عونيون بالتعاون مع مجموعات وأفراد في باريس. بعض هذه المجموعات قريبة من التيار، وبعضها الآخر من الانتفاضة، وبعضهم لبنانيون فرنسيون احتُجزت أموالهم في المصارف اللبنانية. يجري كل ذلك، بما فيها الدعاوى المقدمة في فرنسا ضد سلامة، بالتعاون مع رئيس جمعية «Sherpa» المحامي وليم بوردون الذي يمثّل رأس الحربة في هذا الملف، وتعنى جمعيته بالدفاع عن المواطنين ضحايا عمليات الفساد.
ترى القيادة العونية أن معركة إسقاط العهد وباسيل بدأت وانتهت باكراً، أي قبيل عامين من الانتخابات، وتلك نقطة انطلاق جيّدة لإعادة استنهاض القاعدة الشعبية التي يدرك رئيس التيار أنه خسر منها جزءاً لا يستهان به. لكن ثمة إيجابيات لهذا السقوط الكبير، إن كان من ناحية اكتشاف «العونيين العاملين ضد المصلحة العونية»، و«الأفراد الذين يشكّلون أثقالاً تشدّ التيار نحو الأسفل ومعظمهم نواب لم يقتنع بعد رئيس التيار أو هو متردّد في تغييرهم رغم ذلك». كذلك، يحصل أخيراً أن خرج العونيون من تقوقعهم ويسعون بشكل أو بآخر الى الانفتاح على من يمكن مدّ اليد إليهم، والقاعدة الأولى ألّا يكونوا «حلفاء أعداء» كمن ركبوا بوسطة التيار في انتخابات 2018 وتركوها لاحقاً ليركبوا بوسطة الثورة. في الخلاصة، بدأ التيار يرسم خريطة انتخابات 2022 مع إدراكه مسبقاً أن «الطريق ستكون وعرة ومحفوفة بالأعداء، ولا سيما أنها ستتزامن مع نهاية عهد ميشال عون». لكن التيار مرتاح الى أن خصومه «رموا كل أوراقهم دفعة واحدة، فيما لا يزال هو يحتفظ بملفاته لرميها تباعاً في الوقت المناسب».