الشاعر هنري زغيب
... مع ذلك، يأْتُون. مع كلِّ ذلك يأْتُون.
عارفُون بالوضع الصعب وضيق النفَس الوطني، ومع ذلك يأْتُون. من جميع بلدان العالم، عربيِّها والغربيِّ، يأْتُون، حاملين شوقَهم والشغَف ويأْتُون.
ويُحصي المطار وصولَ الآلاف منهم كل يوم، لبنانيين عائدين إِلى بلادهم الأُمّ، إِلى أَرضهم الأُم، إِلى مخدَّتهم الأُم، بالرغم من كل ما يسمعونه عن البؤْس الذي وقع فيه بلدُهم بسبب مَن تحكَّموا ولم يحكُموا، مَن سيَّسوه وما ساسوه، من رعَوا نسلَهم وذرِّيَّتَهم وسليلتَهم من أَبناء وأَصهار وأَنسباء وأَقرباء وأَزلام وأَذناب ومحاسيب، رعَوهم جميعَهم وما راعَوا شعبًا أَمِنَ لهم وأَمَّنَهم وآمَن بهم فخانوا الأَمانة والتأْمين والإِيمان.
مع ذلك، آلافُ اللبنانيين المهاجرين يأْتون، معهم من النقْد الذي، بهبوط النقْد اللبناني مأْساويًّا، ينشِّط دورةً اقتصادية تنهار يومًا بعد يوم.
مُهاجرون يعودون طوعيًّا ولو وميضًا إِلى وطنهم مؤْمنين به، ومواطنون يُهاجرون قسريًّا بلا وميض أَمل لأَن بلدهم هجَّرهُم ويغادرونه كافرين به.
وبين المؤْمنين بلبنان الوطن يأْتون إِليه متفقِّدين، والكافرين بلبنان الدولة يَهْجُرون منه غاضبين، يترنَّح لبنان في عصف أَعاصيرَ كارثيةٍ لم يعرفْ مثلَها في تاريخه الحديث. مع ذلك جاؤُوا وما زالوا يأْتون إِلى صيف لبنان، وأَهلِهم في لبنان، وحنينِهم إِلى لبنان، وشوقِهم إِلى لبنان، وحبِّهم لبنان، وخصوصًا خصوصًا يشدُّهم إِيمانهم بلبنان، لبنانِهم، وطنِهم، مرجِعِهم، ولو انهم يعيشون في بلدان عالية الدقة والنظام والانتظام والحزم والأَمن والأَمان، ورئاسة تحنو على شعبها، وحكومات في خدمة شعبها، ومُشَرِّعين لمستقبل شعبهم.
مع كل ذلك يأْتون بكلّ حُبٍّ إِلى أَرضهم الأُمِّ هنا، وسوف يغادرونها بعد أَيام إلى أَرضِ إِقامتِهم هناك، حاملين أَملًا بأَن لبنان، لبنانَهم، لن يستمرَّ هكذا، لأَن الدول الثابتة التي ترعى الدول المنكوبة أَدركَت بكل انكشافٍ دوليٍّ ما يجري من مآسٍ ومَن يُسبِّب هذه المآسي.
تلاحق مصالحَها تلك الدُوَل؟ صحيح، لكنَّ قيامةَ لبنان قيامتُها كذلك، فلا يمكن أَن يسقُط لبنان وتبقى تلك الدول على حال. لبنانُ الدولة أَمرٌ محليٌّ يعني ناسَه المحليين، لكنَّ لبنانَ الوطن ضرورةٌ للعالم بما فيه من محورية في أَكثرَ من وُجهة ووَجه واتجاه. ولأَجل بقاء هذا اللبنان الدور والضرورة، سيُنقذ العالَـمُ لبنانَ معاقبًا سياسييه الـمُنْتِنين مراقبًا أَهله الخلَّاقين في أَكثرَ من حقل وميدان وقطاع.
وها صيف لبنان يعاند: مهرجاناتٍ واحتفالاتٍ وأَنشطةً يعاند، بما يتيسَّر يعاند، لأَن شعبه أَقوى من تَيْئييس سياسيِّيه، أَخلدُ من زواليَّة سياسيِّيه، أَبقى من بقاء سياسييه.
ولن يَيْأَسَ شعبُ لبنان، وسيبقى متشبِّثًا بأَرضه، بوطنه، بإِرثه الخالد، ولن يكفُر بلبنان بسبب عُهْر سياسييه، بل سيعمل على إِطاحتهم فردًا فردًا ونسْلًا نسْلًا، ولن يُعيدَهم إِلى الحكْم للتَحكُّم به، فيتشاءَم منهم ويتفاءَل بوطنه، وتفاؤُلُه سيحمله إِلى المثابرة والخلاص، وسوف يتدحرجُ الحجر عن باب قبرٍ أَوصلَه إِليه سياسيُّوه فينهار عليهم الحجر، ويُشْرق فجرٌ لبنانيٌّ جديد، أَمَّا البيلاطسيُّون الجلَّادون واليوضاسيون الخائنون فسينهارون متدحرجين إِلى قبر الظُلمة الأَبدية.