النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس
سأظل أدافع عن الدولة اللبنانية وعن فكرتها رغم سوء سمعتها وسلوكها المنحرف وفقدانها المناعةَ المكتسبة التي أغرت بها العصابات، والعصبيات، ورواد التحشيش الفكري، وأصحاب المشاريع الملونة المزيّنة بالتعابير الرومانية المبهمة والمصطلحات المعتمة، كأن يقول "أيادهم" إنّ نهاية المسيحيين باتت قريبة ولكن ببطء، فمن يفسّر لي هذا؟
لقد استنتجت بالملموس والخبرة والتأمل، أن الدولة حاجةٌ فردية لكل مواطن.
وعلى الرغم من أنّ دولتنا هانت على كل من هبّ ودبّ، وأفردت عن المجتمع العربي والدولي إفراد البعير المعَبَّدِ فإنني لم أخش عليها من القصف والاحتلال الخارجي والداخلي، ولا من المفذلكين المفدرلين، ولا من الإعلام الذي شحت موارده فلجأ إلى موارد غير عذبة، كما لم أخشَ عليها من الفوضى الأمنية، ذلك أنني مراهن على المواطنين رغم تفرّقهم شتى، وتغريداتهم على مقامات متنافرة، واندثارهم في شوارع الغضب والصراخ، واستمرائهم التخريب على مرأى الشاشات، لأنهم كلّهم جميعاً أصحاب مصلحة شخصية بوجود الدولة التي تعني لكل منا هوية وجواز سفر وصك ملكية وسند إيجار وفرصة عمل، وملاذاً من الشتات الذي عاينَّاه وكابدنا آثاره منذ العام 1948، وصولاً إلى الأزمة السورية.
وعليه فإنّ من لم يتّعظ بالتبصر والرؤية، متَّعِظٌ حتماً بالاحتكاك والممارسة، وهذا ما كنت أؤكد عليه من خلال مسؤوليتي السابقة عن ملف اللاجئين السوريين ومعاينتي لأوضاعهم غير الإنسانية التي لا تجبرها مساعدات، ولا عنايات المنظمات الدولية.
ولكن ما يقلقني فعلاً أن الممسكين بزمام دولتنا أقرب إلى القراصنة منهم إلى الحكام، لأنهم بعد أن قبلوا من الآخرين تسليمهم سفنهم طوعاً، نزلوا عليها، فكسروا صواريها، ومزقوا أشرعتها، وحطموا مجاذيفها، وأذلوا ربابنتها، وراح كل أعور يمسك دفة لا تسلسل لفجره وعجرفته وقلة خبرته، وقد وضع بين أسنانه سكينًا، وأطلق ضحكة رعناء متشفية بمأساة الأساطيل والمساطيل والركاب وآداب البحر والإبحار.
إننا حيال نوع من الاستبداد يخجل منه تاريخ الاستبداد، ويأنفه نظام المافيات التي كانت إذا اجتمعت الكوزا نوسترا، واتخذت قراراً، نفذته وتخطت بحيرات دمائها، لأن مصالحها تملي عليها بروتوكولات وتقاليد، منها تشجيع الأعمال الخيرية والذهاب إلى الصلاة وسماع الأوبرا وصيانة العائلة، أما الممسكون بالأرسان اليوم، فإنهم يشدّون على خناق الناس لشنقهم لا لسوسهم، وهم يطفئون النور لولعهم بالوطاويط ويقطعون الماء نكاية بالبدو أهل الصحراء، ويجففون الودائع حتى لا يذكرهم أحد بالوديعة التي احترفوا نكرانها وإنكارها والاحتفاظ بها من غير وجه حق.
الدولة اللبنانية تحكمها التماسيح ذات الأنياب الشرهة، والجلود التي كانت تستعمل في صناعة الأحذية الراقية فباتت أحذية فوق رقاب العباد.
يتحدثون عن انفجار المرفأ وعن جريمة القتل والقصد الاحتمالي، فلا أرى إلا أن هذا النظام المتوحش مستعدٌّ ليلقي إلى المحرقة بأي كان، كما كان يفعل القيصر بمصارعيه منتظراً هتاف الجمهور:"اقتله.. اقتله".
إنّ كلّ من يلاحق بتهمة القتل المؤسسة على القصد الاحتمالي، ليس سوى فدية عن القتلة أصحاب القصد العمدي الذين تنطبق عليهم المادة 549 عقوبات والتي توجب الإعدام، ذلك أنّ السلطة التي تستبيح قانون النقد والتسليف، تعمّدت أن يفلس البلد وتسرق أموال الناس، والسلطة التي لا تعنى بالطرقات تعمدت أن تقتل الناس بالحوادث، وتلك التي تخرب علاقاتها الدبلوماسية تعمّدت أن يضرب الحصار علينا، والتي تعطل آلة العدالة، وتحرّض القضاة على تأليف الميليشيا و خرق الأصول هي مرجعية المجرمين وحاميتهم، والعبث بالمواعيد الدستورية وتوسل الفراغ، هو قتل للدولة مع الترصد وتعطيل تأليف الحكومات على مدى سنوات، هو تشتيت لها والذهاب بها إلى الفوضى مع سبق الإصرار، فلماذا إذا البحث عن الظهر في الساعة الرابعة عشرة، ولماذا اللهاث وراء القصد الاحتمالي وتقصِّيه مشدوداً من شعره، فيما العمد مع سبق الاصرار بعقل هادىء ودم بارد ترك بصماته على السلطة التي عرفت من قضها إلى قضيضها ، من رأسها إلى أطرافها، أن النترات يمكن أن ينفجر تحت ظروف معينة ولم تحرك ساكناً، لأنها سلطة معادية لمدينة بيروت عروس المدائن ودرّة الشرق ومهد الحقوق والجامعات، فتعمّدت أن تقتلها، ثم تذرف دمع التمساح، وتعزف على الماندولين كما نيرون ثم تنتحل صوت ماجدة الرومي وتقول:
نعترف ..
أنّا كنّا منك نغار.. وأن جمالك يؤذينا.. نعترف.. فيا ليتهم ما اقترفوا .. ولا اعترفوا.