خالد أبو شقرا
"قِفا" نسأل عن مصير لبنان في العام 2022! الكثيرون ينتظرون "الإرتطام" الكبير، بناء على التدهور السريع في الوضع المعيشي. يعوّلون على اصطدام ما، من دون أن يعرفوا بالضرورة المصطدم به، ولا النتائج. المهم، أن يكون حدثاً يوقظنا من كابوس الإنهيار، ويضع حداً لـ"عسّ" الجمر تحت الرماد. إن كانت النار لن تنطفئ، فلتشتعل، وتقضي على هذا الواقع الميؤوس منه.
هذه الفرضية "المنطقية" في بلد خسرت عملته لغاية اليوم 90 في المئة من قيمتها، وفقد 45 في المئة من سكانه مدخرات أجيال على طاولة "روليت" المصارف، ويرزح أكثر من 60 في المئة منهم تحت خط الفقر، ويتجاوز معدل البطالة 40 في المئة... لن تحدث. فعلى ما يبدو "لبنان عالق في انحدار بطيء أقرب إلى الانحلال منه إلى التفجير"، على حد وصف تقرير أعده باحثو موقع Synaps بالشراكة مع منظمة CARE’s تحت عنوان "لبنان 2.0.2.0 المستقبل الذي نستعد له". الإستنتاج الذي بني على تباطؤ الأحداث بشكل ملحوظ بعد جريمة المرفأ يجد أن الديناميكيات (السياسية والشعبية) الحالية تحمل أدلة على المكان الذي قد تتجه إليه البلاد، على الرغم أنه من المستحيل التنبؤ حقاً بكيفية تطور هذا المسار. لكن الأكيد أن الكثير من السكان وجدوا طرقاً للتكيف عبر تقليص وتغيير أنماط حياتهم، الإستفادة من أي مساعدة إنسانية معروضة، واستخدام الدولارات التي يرسلها المغتربون. وبالتالي، لا يعاني الجميع بالقدر الذي توقعوه، مما يجعل الحاضر يبدو أكثر ملاءمة مما كان يخافه الكثيرون.
الإحتراق البطيء
المسار البطيء ليس وليد الصدفة، إنما يعود بحسب "التقرير" إلى "كيفية تعامل الطبقة السياسية مع الأزمة. بحيث يعمد المسؤولون (وهم قادة الأحزاب) إلى إطالة المشاكل بدلاً من حلها، وتقديم حلول متفرقة عندما تصبح الحاجات ملحة. ويستخدمون لهذا الغرض الضغط على موارد الدولة. الأمر الذي يؤدي إلى دورة غير منتظمة من النقص والإمداد، تُبقي جمهورهم معتمداً بشكل عكسي عليهم، حتى عندما تجبرهم الأزمة على تطوير استراتيجيات البقاء الخاصة بهم". يضاف إلى هذه السياسة الماكرة "إعادة البنك الدولي توجيه القروض المخصصة مسبقاً وغير المصروفة لتمويل حزم المساعدات الأساسية. واستمرار البنك المركزي بتغطية بعض السلع الأساسية، من خلال "التهام" أموال المودعين". التقرير الطويل الذي يصف الوضع بـ "الإحتراق البطيء" يجد أنه من الممكن لأزمة لبنان التي تبدو بلا نهاية، أن تتجذر بسهولة. فالأشخاص العاديون يتعلمون العيش مع ندرة متزايدة، ويستمر السياسيون بالتلاعب بمعاناتهم، والجهات الفاعلة الدولية تقدم الدعم الكافي فقط لإبقاء النظام قائماً.
لا مقاومة
لعلّ الأخطر من حالة "الخنوع العام" التي لمّح إليها التقرير، هو عدم لحظه لأي مقاومة شعبية لنهج الإفقار؛ وهو معذور. فلا أحد يمكن أن يتحدث عن شيء غير موجود. مع العلم، أن هناك في لبنان نحو 600 نقابة، و64 إتحاداً يمثلون العاملين في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدماتية، منضوين تحت الإتحاد العمالي العام. هذا العدد الهائل من النقابات الذي يفوق الموجود في الصين، كان من المفترض أن يشكل خط الدفاع الأول عن عمال لبنان المقهورين. فأين هي النقابات التي وجدت للدفاع عن حقوق العمال والمستخدمين؟ وأين النقابات التي بفضل نضالها أنشئ الضمان الاجتماعي، وتحققت زيادات الاجور، وتمّ ايجاد قانون العقود الجماعية ومجالس العمل التحكيمية؟
يجيب القيادي النقابي ومدير "المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين"، أحمد الديراني، بان "المشكلة تتمثل اليوم في غياب الإتحاد العمالي العام وعدم تمثيله لأحد، ابتداء من نفسه، وتحوله إلى أداة بيد الأحزاب. هذا الغياب لا يعود بحسب الديراني إلى أيام أو سنوات، إنما إلى مرحلة ما بعد الطائف بداية التسعينات، حيث عملت الوصايا السورية على تدجين كل الهيئات والمؤسسات لتسهيل السيطرة عليها، ومن ضمنها "الإتحاد العمالي العام" الذي كان يتمتع بنوع من الإستقلالية العمالية وبتأثير كبير. فبدأ "تفريخ" النقابات والإتحادات الوهمية لـ"الطوائف" وليس للأحزاب، من اجل تغيير التوازنات في قيادته. فانتهينا إلى اتحاد عمالي عام "هجين".
التحول الجذري من "اتحاد عمالي" إلى "إتحاد السلطة وزعماء الطوائف وأصحاب العمل"، يكمّل اليوم مشروع السلطة السياسية في إفقار وتهجين العمال بدلاً من التصدي له. وللمثال "تواطؤه مع اصحاب العمل في زيادات الاجور وقبوله بأقل مما طرحه آنذاك وزير العمل للحد الأدنى للأجور"، يقول ديراني، وهو "منذ عام 2012 لم يتحرك لمكافحة غلاء المعيشة، وغابت معه لجنة مؤشر غلاء المعيشة، وتقاعس عن دوره في حماية الضمان الاجتماعي الذي يسوده الهدر والفساد والاهمال والشغور الوظيفي، والتباطؤ المميت في انجاز معاملات العمال والعاملات. ولم يفرض على المعنيين إعادة انتخاب مجلس إدارة الضمان المنتهية ولايته منذ سنة 2007. ولم يقف في وجه تأجيل قانون ضمان الشيخوخة الذي يؤجل من سنة الى أخرى. وهو غائب كلياً عن التصدي لسياسات الدولة الإقتصادية والإجتماعية والضريبية".
التغيير من "الإتحاد"
خلق مقاومة شعبية وعمالية حقيقية لهذا النهج يبدأ، من وجهة نظر الديراني، بـ"تغيير بنية الإتحاد الهشة وغير الديمقراطية. فالإتحاد هو تنظيم كونفدرالي لا تتشكل هيئاته القيادية عبر الانتخابات بل عبر انتداب ممثلين للاتحادات المنضوية، ولا يتم اعتماد التمثيل النسبي". فالاتحاد الذي يضم على سبيل المثال 8000 منتسب له مندوبان إثنان، والاتحاد الذي يضم 300 أو 400 منتسب له ايضاً ممثلان إثنان. الأمر الذي ادى إلى غلبة للنقابات الهامشية وممثلي النقابات الوهمية وممثلي الطوائف. و"ما يزيد الطينة بلة" برأي ديراني أن "وجود النقابة مرهون بالترخيص المسبق من وزارة العمل، والترخيص يخضع دائماً للمحاصصات السياسية، وجميع المواد في قانون العمل التي تنظم عمل النقابات تنص على التدخل والوصاية على عمل النقابات، تأسيساً وممارسة يومية وفي توجهاتها وبرامجها. ولها الحق في حل النقابات بناء على المرسوم 7993 الصادر في 3 نيسان 1952. وما زال لبنان لغاية اليوم لم يوقع على الإتفاقية 87 من اتفاقيات منظمة العمل الدولية التي تنص على حق تأسيس النقابات، والانتساب بشكل مستقل تماماً عن السلطات وتدخلها في القطاعين العام والخاص".
من هنا اقترحنا في المرصد الخطوات الواجب اتباعها لخلق ثورة عمالية حقيقية تدافع عن حقوق العمال وتتصدى لهذا الواقع ومن أبرز النقاط:
المبادرة الآن وفوراً الى الدعوة الى انتخابات عامة في جميع هيئات الاتحاد العمالي العام من ضمن هيكلية نقابية جديدة تقوم على الأسس التالية:
- إعتماد مبدأ تشكيل الإتحادات على أساس قطاعي. وسبق للاتحاد العمالي عام 1994 ان تقدم بهيكلية نقابية تعتمد التشكيل القطاعي وحددت عدد القطاعات بـ18 قطاعاً، ومن ضمنها حق موظفي الدولة بانشاء نقابات لهم.
- أن تتم الإنتخابات من النقابات الى الإتحادات الفرعية ومن الاتحادات الفرعية الى الاتحاد العمالي العام، على اساس التمثيل النسبي. أي حسب عدد وحجم المنتسبين الى كل نقابة وكل اتحاد.
- دعوة جميع النقابات الى الإنتخابات على أن تتم باشراف هيئات قضائية مستقلة والجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات، للتدقيق بلوائح المنتسبين وللخلاص من ظاهرة النقابات الوهمية.
يظهر مما تقدم أن التصدي للأزمة والنهج القاتل المتبع لا يكون إلا من خلال ازاحة "فوهة بندقية" العمل النقابي عن "صدر" العمال وتوجيهها إلى قلب السلطة. ومن هنا يبدأ التغيير الحقيقي.