أنطوان الأسمر
قد تكون المثالثة التي طالما حذّر منها المسيحيون وحذِروا منها، أكثر قربا الى التحقق مما تصوّروا يوما. أصلا، تتحقق المثالثة تدرّجا، ممارسةً وبحنكة مشهودة، فيما يبدو جليا أن ثمة من لم يعد يكتفِ بها عرفا، فيسعى الى تثبيتها نصا ودستورا، ويؤسس لها مع كل صباح. واقعٌ يؤدي حكما الى إضمحلال متدرّج للحضور السياسي للمسيحيين مترافقا مع تحللهم ديمغرافيا بفعل السياسات السياسية والإقتصادية التي صيغت قصدا، إما لطردهم من النظام وإما لتهجيرهم تباعا وعلى مراحل.
المثالثة القائمة على تفتيت المناصفة - الحقة لا الشعاراتية- بين المسيحيين والمسلمين، قائمة، إذن، منذ زمن. لم يعد خافيا أنها إنطلقت مع جمهورية الطائف إنتقاما من المسيحيين، ويحرص القائمون عليها على حقنها تباعا في الجسم السياسي اللبناني. كما لم يعد خافيا أن هؤلاء القائمين زادوا تدريجا الجرعات منذ العام 2005، فيما المسيحيون يجاهدون لكي لا يكونوا أو يُصيَّروا أهل ذمة، بدءا حيال السنية السياسية الآفلة، ومن ثمّ إزاء الشيعية السياسية الهوجاء، وراهنا في مواجهة تحالف الثنائي السنيّ – الشيعي النزق. هو تحالف ثابت شرعا وواقعا وممارسة، مهما كابر فرعُه الأول ونفى فرعُه الثاني.
يتّفق الفرعان على تصليب حضورهما في السلطة والحكم، تمهيدا الى الآتي من تسويات ستؤدي حكما وتلقائيا الى إعادة تركيب للنظام وفق ما يجدا في مصلحتهما الملية، فيما يغرق المسيحيون في جمهورية قلقة، دولة من القلق القاتل، في حال وجودية تأفل وتضيق عليهم تصاعدا وصولا الى الإنحلال. وليس أدق من هذا التوصيف سوى ما تثبته الأرقام من تراجع راهن في الحضور الديمغرافي وصولا لى 11% من عدد السكان كع حلول سنة 2080، وفق دراسة لـ"الدولية للمعلومات" عن التوزيع السكاني للبنانيين وفق الطوائف.
يعصف القلق بالمسيحيين من كل الجهات، وجودا وحضورا ودورا وإستمرارا وإضمحلالا، بينما لا يجدون في الشريك، الثنائي السني – الشيعي إياه، تفهّما لقلق الحدَ الأدنى.
ما زادهم بؤساً تفشّي المثالثة في عصب لبنانهم. وآخر مظاهرها التوافق السني – الشيعي على تركيبة الـ888 التي تثبّت القلق المسيحي وتشرّعه. حكومة يُراد لها أن تأتي إنعكاسا لموازين قوى مختل: ثلث للشيعية السياسية وثلث للسنية السياسية وثلث أخير هجين، لا هو ترجمة للمسيحية السياسية لأنها غير موجودة راهنا، ولا هو تأسيس لها لأن العصب المسيحي لم يكن يوما في جعبة واحدة، ولن يكون.
يجد المسيحيون أنفسهم، مرة جديدة، ضحية الثنائية السنية – الشيعية، تلك القائمة على متلازمة الخوف من الفتنة. بمعنى آخر، لا يجد الثنائي بدا من توافقهما فوق كل الشكوك والشبهات التي تحيط علاقتهما البينية، تاريخيا وصولا الى حدث وأد المحكمة الدولية الذي يحصل بتشاركٍ سنّي - شيعي. هو مثال صارخ على أن الجماعتين تعيشان أسيريّ فالقهما التاريخي، أسيريّ متلازمة ستوكهولم حيث الآسر والمأسور متحابان. وهذا الأسْر هو الدافع الذي يحكم علاقتهما، مهما تغرّبا وتناقضا وتقاتلا، بينما المسيحيون، حيث لا فالق يثير القلق الفتنوي، يشكلون عاملا ثانويا لإفتقادهم الدافع الى إقتتال بينيّ، خلافا للفالق المسلم. ولا ضير من جعلهم ملحقا بالتسوية، ليكونوا طبقا مقبّلا تمهيديا للطبق الرئيسي، وربما الخروف المسمّن.
لكن هل تجد المثالثة طريقها الى الشرعية الدستورية، بعدما نالت شرعيتها الواقعية بحكم التقاطع السني – الشيعي، بتسهيل وربما بدفع من الغرب الكاثوليكي لهذه الوصفة القاتلة لمسيحيي لبنان؟
لا يخفى القلق المسيحي من التهاون الغربي حيال الإقتسام المتخيل للحكم في لبنان.
ولا يخفى أيضا أن باريس كانت سبّاقة في طرح المثالثة كأحد الحلول المنقذة للنظام اللبناني المتهالك. وشكّل مؤتمر لا سيل سان كلو الشهير (تموز 2007) حاضنا بدائيا لها. حينها إستنفر جان كلود كوسران كل حواسه لإستشعار مدى القبول اللبناني بها كمنصة لتغيّر الصيغة وتغييرها، بعدما لمس من لقاءاته مع المسؤولين الإيرانيين بأن المثالثة تصلح لتكون إطاراً لمعالجة ملف سلاح حزب الله.
فهل تستعيد فرنسا ماكرون الأفكار الفرنسية البسيطة للمسألة اللبنانية المعقدة، فيأتي الحل هلى حساب الجماعة المسيحية، أم يستنفر الفاتيكان ويطلق النفير تنبيها وتحذيرا من إضمحلال آخر واحات التعددية المسيحية في المحيط المسلم؟