في أقل من 48 ساعة، أُسقِطَت مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري ببيانات لاذعة متبادلة بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، كذلك الوزير جبران باسيل. الرسالة المشتركة التي بعث بها الطرفان المتصارعان إلى عين التينة أنهما في حل من أي التزام بالمبادرة. أما في ما بينهما فكانت البيانات دليلاً على حرق آخر ما تبقّى من جسور.
خيّمت أجواء السواد على مصير الحكومة العتيدة، وسطَ معطيات تبدو معها العقبات المتبقية لاستكمال التشكيلة مُستعصية على المعالجة. ذلك أن العقبات الأخيرة التي حُصِرت باسمين مسيحيين يُصرّ على تسميتهما الرئيس المكلف سعد الحريري وهو ما يرفضه النائب جبران باسيل، ليست سوى مخارِج للتغطية على السبب الرئيسي للعرقلة والذي باتَ معلوماً عند الجميع: "لا الحريري يريد تشكيل حكومة، ولا باسيل يقبل بأن يُشكّلها الحريري".
واقِع الاتصالات والمشاورات كانَ يؤشّر إلى أن الولادة لم تعُد تحتاج إلا إلى أيام معدودة وبضعة اجتماعات، بعدَ التظاهر بأن ما توقفت عنده المشاورات هو العقد الحقيقية وليسَ وراء الأكمة ما وراءها من نيّات مستترة خلفَ حقائب وحصص. لكن مفاوضات اليومين الأخيرين أثبتت أن عملية تصفية حسابات سياسية تجري خلف الكواليس، بما يدفَع الحريري وباسيل الى التمادي في التعنّت، لكنها هذه المرة أتت "فاقعة"، وإن كانَ التيار الوطني الحر قد قدمها بمضمون سياسي أذكى ممّا فعله الرئيس الحريري.
على أي حال، أكدت مصادر معنية بالملف الحكومي أن الساعات الماضية لم تشهد أي جديد بارز على صعيد جهود التأليف، بل إنها أشارت إلى "ما يُشبه الصدمة من حرب البيانات التي اندلعت بينَ بيت الوسط وبعبدا، مروراً بالبياضة"، معتبرة أنها "بمثابة ردّ سلبي على مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري وإدارة الظهر لها". وقالت المصادر إن "الاتفاق الأساسي كان ينصّ على أن يجيب باسيل بعدَ التشاور مع الرئيس ميشال عون على التشكيلة التي تقدّم بها الحريري وناقشها معه الخليلان في الاجتماع الأخير"، إلا أن "الحريري ارتكبَ خطأً فادحاً بأن فتحَ النار على رئيس الجمهورية. وبينما تقصّد باسيل بعدَ اجتماعه بالخليلين تسريب أجواء إيجابية، أتاه خطأ الحريري على طبق من ذهب لكي ينسحب من العملية برمتها، ويستغلّ إحراج الحريري للثنائي الشيعي باعتباره الأكثر تمسكاً به".
واعتبرت المصادر أن فداحة الخطأ الذي ارتكبه الحريري تكمن أولاً "في مسارعته إلى التصويب على رئيس الجمهورية، علماً بأنه كانَ بالإمكان حصرها بباسيل وترك المهمة لكتلة المستقبل، مع تحييد رئيس الجمهورية عن هذه المعركة"، ومن ثم في "بدء الهجوم عشية زيارة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الى بعبدا"، وهو ما لم يتنبّه له الحريري، "فالراعي مهما حاول الوقوف على الحياد بينَ الاثنين لن يقبل بالتهجّم على موقع ماروني"، وهذا الأمر "خدم الرئيس ولم يُتِح للراعي الوقوف على مسافة واحدة".
بل إنه، وبحسب مطلعين على جو اللقاء، "عبّر عون عن غضبه من بيانات الحريري، وسأل الراعي عمّا إذا كانَ يقبل بإهانة موقع الرئاسة، كما أن الراعي نفسه كان مستاءً ولم يستطِع الدفاع عن الحريري، لا علناً ولا خلال الاجتماع". ثمّ إن هذه الردود، بحسب المصادر أيضاً، "ليست في صالح الحريري، لأنها تأتي في وقت كشف فيه البابا فرنسيس أنه سيجتمع في الأول من تموز مع قادة لبنان المسيحيين لمناقشة الوضع المقلق في البلاد"، في إشارة الى الحرص الشديد على الوجود المسيحي في لبنان. واعتبر الراعي بعد اللقاء أن "البلد يحتاج الى الإنقاذ لا إلى القواص المعنوي"، رافضاً "أن نهين بعضنا بالشخصي وانتهاك الكرامات ونحن مجروحون من لغة الإهانات"، ومتمنياً تأليف "حكومة أقطاب".
وفي هذا الإطار، قالت مصادر التيار الوطني الحرّ إن "الراعي حقق خرقاً كبيراً بالدعوة الى حكومة أقطاب، وهذا يعني تخلياً عن المبادرة الفرنسية"، مشيرة إلى أنه "قد يتناقش مع بري في هذا الأمر". وأضافت المصادر أن "الاتفاق كان على أن يمهد الحريري مع رئيس المجلس لزيارة الى بعبدا، لا أن يضع الاثنان تشكيلة حكومية لفرضها على عون، فالصيغة يجب أن تناقش مع رئيس الجمهورية لا مع أي طرف آخر".
وقبل اللقاء، افتُتِح النهار ببيان للتيار الوطني الحر أسِف فيه أن "يواصل تيار المستقبل الردّ بسلبية على كل طرح إيجابي نتقدم به، لكن رغم ذلك فإن استخدامه لغة الشتائم المستفزّة لن ينحدر بنا الى هذا المستوى". ثم استكمل ببيانين: واحد لرئاسة الجمهورية يتّهم فيه تيار المستقبل باستخدام "الأضاليل والتعابير الوقحة" طوال الأسابيع الماضية، ويؤكد "أن استمرار هروب الرئيس المكلف من تحمل مسؤولياته في تأليف حكومة متوازنة وميثاقية تراعي الاختصاص والكفاءة وتحقق المشاركة، يشكل إمعاناً في انتهاك الدستور ووثيقة الوفاق الوطني". واتهم البيان الحريري بأنه "يصرّ على محاولة الاستيلاء على صلاحيات رئيس الجمهورية"، وبأن "المستنقع" الذي يدّعي بيان المستقبل أن البلاد غارقة فيه، هو من إنتاج منظومة ترأسها تيار "المستقيل" وتسلّطت على مقدرات البلاد". ورداً على البيان، أكد "تيار المستقبل" أنه "ثبت بالوجه الشرعي والسياسي والدستوري أن رئاسة الجمهورية تقع أسيرة الطموحات الشخصية لجبران باسيل، وأن فخامة الرئيس عون مجرد واجهة لمشروع يرمي إلى إعادة إنتاج باسيل في المعادلات الداخلية".
أما خاتمة النهار، فتولاها رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب الذي تلا بيان "الغرق"، داعياً اللبنانيين إلى الصبر على أي قرار قد تأخذه أي جهة ويزيد معاناتهم". وحضّ القوى السياسية على "تقديم التنازلات، وهي صغيرة مهما كبرت، لأنها تخفف عذابات اللبنانيين"، قائلاً إن "لبنان في قلب الخطر الشديد، فإما إنقاذه الآن قبل فوات الأوان وإلا فلن ينفع الندم".