فتات عياد
كل محاولات "إنعاش" المبادرة الفرنسية وتذليل العقبات أمام ولادة الحكومة الجديدة باءت بالفشل، فيما لم تحرك مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري ولا تسوية النائب السابق وليد جنبلاط "المنشودة" مياه التشكيل الآسنة، فـ"فيروس التعطيل" متفش في الجسد اللبناني، وحالة "المريض" في مرحلة متقدمة!
وهذا "الفيروس" مصاب بـ"تحورات" أبرزها الفساد والذهنية اللبنانية المحاصصاتية والتبعية للخارج، ويستمد قوته من النظام الطائفي، وبات لا يستجيب مؤخراً إلا لـ-ضوء أخضر خارجي- حتى يكاد من يسمع الشيخ نعيم قاسم يتحدث عن "جانبي تشكيل الحكومة"، أي فريق رئيس الجمهورية وفريق الرئيس المكلف، يحسب أنه يتحدث عن المفاوضات الإيرانية-الأميركية!
ورغم حالة الجمود في ملف التأليف، هناك من يعول على ضغط حقيقي على الداخل اللبناني، قبل أيام من اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، الذي يتوقع أن ترشح عنه عقوبات بحق معطلي التشكيل، سيما وأن وضع هكذا عقوبات يطرح تساؤلاً حول إمكانية تشكيل حكومة من طبقة حاكمة "معاقَبة" دولياً.
تعويم الطبقة الحاكمة
بعد انفجار مرفأ بيروت، امتصت مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غضب الشارع. بدأ الأخير بتوبيخه للطبقة السياسية ومواساته لأهالي بيروت، كمن حمل لواء "تحرير" اللبنانيين من طبقتهم الحاكمة.
انتظر بعض اللبنانيين من ماكرون "تطويع" حكامهم، واستبدالهم بـ"اختصاصيين" في السلطة التنفيذية، فظنّوا أن صوتهم بات له حاضنة دولية، سيما وأن تكليف السفير مصطفى أديب، حصل بمباركة فرنسية.
لكن ماكرون نفسه تعرض لـ"التطويع"، وسرعان ما غرق في "وحول" مبادرته "الملبننة"، وهو يدفع الثمن اليوم بهزالة موقفه في الداخل الفرنسي. والطعنة الأولى لمبادرته كانت بتمديد المهل التي أعطاها لتشكيل الحكومة، ليأتي بعدها تمسك الثنائي الشيعي أمل وحزب الله بوزارة المال كتكريس لـ"المثالثة".
بعد تكليف الرئيس سعد الحريري، أخذ التعطيل طابعا محاصصاتيا أشد حدة، وانحصر -شكليا- بين الأخير ورئيس تكتل "لبنان القوي"، النائب جبران باسيل، وتمحور حول "الثلث المعطل" و"النصف زائد واحد"، وصلاحيات الرؤساء في مهمة تشكيل الحكومة.
وتعددت محاولات إنعاش المبادرة الفرنسية، فالمجتمع الدولي وثق بتعويم الطبقة أكثر من ناخبيها، لكن "أوكسيجين" الدعم الدولي لم ينفخ بالحكومة الروح، فلا الجهود المصرية ولا الروسية، ولا بكاء فرنسا على أطلال "تايتانيك-لبنان" ولا تحذيرات بريطانيا من "الكارثة"، فعلت فعلها. أما العقوبات الأميركية على فريق دون آخر، والمواقف الإيرانية التصعيدية، فكادت أن "توقف" قلب الجسد اللبناني عن النبض!
واليوم، هناك من يستخف بمفاعيل العقوبات الأوروبية الآتية، معتبراً أن التسوية الكبرى في المنطقة وحدها ستكون "صفارة" تشكيل الحكومة، فيما هناك من يخشى عدم صمود قلب "المريض" حتى تبلور تلك التسوية!
ومن المبكر ربما نعي المبادرة الفرنسية، لكن حديث اللواء جميل السيد أمس، عن مبادرة إنقاذية، عبر انتخابات نيابية مبكرة تجريها حكومة تصريف الأعمال، بدا كـ"قفز" على طرح الحكومة الإنتقالية.
ولطالما تحدث الأفرقاء السياسيون عن "حكومة إنقاذية"، لكن ضمن الأطر المعتمدة نفسها، أي إعادة إنتاج السلطة، ولو بوجوه منقحة. لكن للثورة "وصفة" أخرى، فهي تراها حكومة انتقالية بصلاحيات تشريعية استثنائية، وصولاً لانتقال سلمي للسلطة.
ووسط استعصاء حلول الطبقة السياسية، وتخبط المبادرة الفرنسية، يبدو طرح الحكومة الإنتقالية اليوم أقرب الى التحقيق. لكن ما هي حظوظها في ظل تعويم الخارج للسلطة؟ وما هي المهام المطلوبة منها؟ وهل تسمح السلطة بفرضها أم تُفرض عليها؟ وماذا عن طرح الحكومة العسكرية؟
الحركة: الحكومة الإنتقالية هي الحل الوحيد
يشدد المحامي والناشط السياسي واصف الحركة في حديث لـvdlnews، على أن "طرح الحكومة الإنتقالية ليس جدياً وحسب بل هو الطرح الأكثر واقعية".
ويضيف "الخيارات الأخرى أثبتت فشلها، وهي تسببت بإفلاس البلد وتجويع الناس وسرقة أموال المودعين". وبالتالي، "من المحسوم أن السلطة لن تكون شرطاً من شروط الحل، بل بقاؤها سيؤدي للإنهيار الأكبر"، من هنا "ضرورة التوصل لحكومة انتقالية أمس قبل اليوم، كمخرج وحيد للأزمة".
ما هي أبرز مهام الحكومة الإنتقالية؟
ويوضح الحركة أن "الهدف من الصلاحيات التشريعية المحددة ليس إلغاء باقي السلطات، بل إعطاء الحكومة القدرة على المبادرة واتخاذ القرارات المنشودة دون الاصطدام بعرقلة المجلس النيابي. ويعدد أبرز مهام هذه الحكومة:
في الشق الإقتصادي
وأولى مهامها هي الإنقاذ الإقتصادي، من هنا ضرورة الذهاب للمحاسبة من خلال قوانين تتيح تدقيقاً جنائياً شاملاً للقطاع المالي بما فيه ميزانيات المصارف والوزارات والمؤسسات، لمعرفة أين ذهبت الأموال المنهوبة، والعمل على استرجاعها.
وبعد سرقة المال العام، يريدون تدفيع الناس الثمن، من هنا ضرورة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، عبر إقرار قانون الكابيتال كونترول وإدارة استخدام السيولة المتبقية وفق أولويات الناس وحاجاتهم منعاً للاستنسابية.
ومن الضروري وضع خطة لمعالجة فوضى الأسعار، لحماية الفئات الأكثر هشاشة، فلأول مرة في لبنان بات هناك لبنانيون "بؤساء" من شدة الفقر.
هذه النقاط توجب وضع خطة اقتصادية شاملة على المدى المتوسط، فالنهوض بالبلد يستوجب حل معضلة الدولار عبر تفعيل القطاعات الإنتاجية.
قوانين إصلاحية
والقدرة على المحاسبة تتطلب إقرار استقلالية القضاء والبدء بمعركة استرداد الأموال المنهوبة، ووضع تشريعات وقوانين تمنع الهدر، وتكون غير التفافية، عكس قانون استعادة المال المنهوب الذي ربط بالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والتي يقومون هم بتعيينها.
أما صحياً، فالتغطية الصحية الشاملة باتت ملحة للجم الانهيار الحاصل عبر خطة طوارئ صحية.
والحكومة الإنتقالية تحدد مصالح البلد وفق مصالح الناس وتمنع تأثيرات المحاور الخارجية. ومن أولوياتها أيضاً التحقيق بانفجار المرفأ دون سقف أو حصانات، بحثاً عن الحقيقة.
إعادة تشكيل السلطة
ومن أبرز مهام الحكومة الإنتقالية إعادة تشكيل السلطة عبر قانون انتخابي يضمن عدالة التمثيل وتشرف عليه هيئات مستقلة. من هنا ضرورة إقرار هذه الحكومة، لمنع الهبوط اللبناني "دون قعر".
وعن توحد مجموعات الثورة حول هذا الطرح، يلفت الحركة إلى أنه "المطلب المحرك الحيوي للمجموعات والمطلب الأخلاقي لكل الناس التي انتفضت في الشارع".
الداخل يفرض التغيير
يذكّر الحركة بأن "أحد أهداف الثورة كان رفض التبعية للخارج على حساب مصالح لبنان. والتبعية من أوجه استمرار هذه الطبقة الحاكمة، ومبادرة ماكرون تأتي في هذا السياق".
وينوه إلى أن "هذه السلطة دائماً ما تستمر بحروب أهلية أو اتفاقات دولية"، لكن "التعويل لفرض الحكومة الإنتقالية المستقلة هو على الناس أنفسهم، فعندما تكون هناك قوة وإرادة شعبية يضطر الخارج للسماع للناس ويغير طريقة تعاطيه مع الأزمة".
ولأن "أساس القوة داخلي"، فـ"الناس تستطيع فرض شروطها، فهم في صلب المعركة، بمن فيهم جماهير الأحزاب المتضررة من سياسات أحزابها". والسلطة تستغل كل شيء حتى لقمة الناس، وهي تنحو نحو فيدراليات مذهبية رأيناها في كراتين الإعاشة، ومسؤولة عنها كل قوى السلطة مجتمعة، وحزب الله يتحمل المسؤولية الأكبر".
أما المواجهة برأي الحركة، فـ"تتطلب إرادة شعبية تتكتل لفرض الحكومة الإنتقالية وليس استجداء هذه السلطة التي لن تقدم شيئاً لمصلحة الناس". وهو يرفض الحكومة العسكرية كحل للأزمة، "كي لا نصبح أمام ديكتاتوريات بسياقات انقاذية، فالإنقاذ الحقيقي يكون الدور فيه لإرادة الناس وحريتها وللديموقراطية".
نادر: المبادرة الفرنسية ساقطة ومشبوهة
يقول العميد المتقاعد جورج نادر، أن "الحكومة الإنتقالية المطلوبة والمجمع عليها هي حكومة لا تضم شخصيات كالرئيس المكلف سعد الحريري"، متسائلاً "هل تنطبق عليه صفات الإختصاصي والحيادي والمستقل؟".
"بالطبع لا"، يقول نادر، "فالحريري رمز من رموز الفساد فيما الحكومة الإنقاذية تضم مستقلين أكفاء غير فاسدين من رأسها إلى آخر وزير فيها".
والمطلوب من هذه الحكومة برأي نادر 3 محاور أساسية: والمحور الأول هو التدابير المالية، "لانتشالنا من حفرة الانهيار المالي التي أغرقونا فيها"، و"تلبي شروط المانحين وصندوق النقد الدولي". والمحور الثاني هو إقرار قانون انتخابي عادل، والمحور الثالث هو إجراء انتخابات نيابية.
ولا ينكر أن الخارج، ولا سيما فرنسا "عوّمت السلطة، فالرئيس ماكرون امتص الغضب الشعبي بعد انفجار 4 آب". ويسأل "كيف طلب ماكرون من السياسيين التنحي، ثم قَبِلَ بالحريري مرشحاً في حكومة اختصاصيين؟ وبمنح المالية لبري وبالتالي بالمحاصصة وبعدها بأي حكومة لضمان نجاح المبادرة؟".
وبمعزل عن أن العلاقات اللبنانية الجيدة تاريخياً مع فرنسا، إلا أن هذه المبادرة ساقطة ومشبوهة، ونحن لا نثق بها، يقول نادر.
وعن فرص تطبيق طرح الحكومة الانتقالية، يرى أنها "رهن باقتناع المجموعات الحاكمة أنه ما من حل آخر"، و"رهن الضغوط التي تقوم بها الثورة على الطبقة لفرض هكذا حكومة".
وعن طرح اسم قائد الجيش لرئاسة حكومة مدنية، يرى به طرحاً عاطفياً نابعاً من محبة الناس للجيش وثقتهم به، لكن هناك أسباب تحول دون ذلك، منها ان العماد جوزف عون ليس سنياً، مما يسبب مشكلة كتجاوز للعرف، على الرغم من حيازته الثقة والمحبة الشعبية.
وبرأيه "يفضل أن يبقى الجيش بعيداً عن السياسة، فهو ضمانة أمنية، وهو حامي الناس، والحكومة الانتقالية برعاية الجيش وموافقته والغطاء الشعبي والشرعي لها هو الحل الأمثل".
هل يصطدم الجيش مع حزب الله؟
وعن التحديات التي تنتظر الجيش في الفترة المقبلة، يذكّر نادر بالتحدي المالي الاقتصادي الاجتماعي، المتمثل بـ"لامبالاة السلطة الحاكمة بوضع عناصر الجيش، وكلنا سمعنا صرخة قائد الجيش في هذا الإطار".
ويشدد "لا يمكننا الحديث اليوم عن أي قرار إصلاحي دون التطرق للسلاح المهيمن على قرار الدولة"، و"الحل يكمن بخارطة طريق واضحة، تبدأ بانسحاب الحزب من سوريا، وتكتمل باقتناعه أن سلاح الجيش هو السلاح الشرعي الوحيد، والذهاب لحل ضمن استراتيجية دفاعية منطقية".
ولا ينكر أن "سلاح حزب الله يصعّب مهمة الأمن في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ لبنان"، لكنه يستبعد في الوقت نفسه حصول صدام بين الجيش والحزب، سيما وأن "أي رصاصة تطلق نحو الجيش تعتبر بندقية عدو، والطرف المعتدي هو الخاسر أمام الرأي العام اللبناني والعربي والدولي فالجيش حائز على الثقة اللبنانية والدولية".
وقد تحصل هكذا مواجهة ربما، لكنها "ستكون قرارا غبيا من الحزب وهروباً منه إلى الأمام كما يفعل في السياسة".
سكة التغيير
والانهيار اللبناني مالي لكن مدخل الحل سياسي، من هنا لفت صندوق النقد الدولي أمس، إلى أن "حزمة الإصلاح نقطة البداية. ومن أجل ذلك تحتاجون إلى حكومة جديدة تقود تطبيق برنامج الإصلاح هذا".
و"الإصلاحات تركز على القطاع المالي والميزانية والحوكمة والفساد"، قطاعات لطالما فشلت فيها الطبقة الحاكمة التي تسببت بالانهيار، ما يعني أن تعويمها قد لا يجر على لبنان سوى المزيد من الخسائر.
وهناك من يرى إقرار قانون أحوال شخصية موحدا، وتكريس صون الحريات العامة، يأتيان في صلب مهام الحكومة الإنتقالية، فهي "أسس التغيير الحقيقي"، و"مدخل لإعادة هيكلة النظام اللبناني"، عبر انتقال سلمي للسلطة بروح ثورية، سيما وأننا على أبواب نظام تأسيسي جديد، وكل قانون يقر اليوم، قد يؤدي إلى تغيير في المعادلة غدا لصالح الناس، فكيف اذا كانت قوانيناً تقوض النظام الطائفي الذي يعتبره كثيرون سبباً جوهرياً للأزمة؟
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا