النهار- طلال عسّاف
*مداخلة ألقيت في الخلوة الروحية الخمسين لمجموعة التفكير والعمل.
ما فتئت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا الأكثر تميّزا في مسارات التصالح وتنقية الذاكرة وختم جراح التصارع والحروب القبلية.
المقاربة الخلاقة التي أرساها نيلسون مانديلا عام 1993، في سياق تطويع العدالة الإنتقالية (لا الإنتقائية!) لتعزيز حالات الإلتئام، كانت كفيلة بتضميد زهاء نصف قرن من أقذار نظام فصل عنصري إعتمد العنف سبيلا لتثبيت أواصر حكم الرجل الأبيض.
وعلى المثال الجنوب الأفريقي، ذهبت كندا مع سكانها الأصليين من الهنود الحمر، وألمانيا الموحدة مع إنتهاكات حقوق الإنسان زمن النظام السلطوي في شرقيتها السوفياتية.
لبنان، بحسرة، فاتته تلك التجربة التصالحية الخلّاقة.
ختم الطائف الحرب من غير أن يختم جراحها. أنهى ميليشيات العسكر وتمويلها الخارجي، لكنه دلّها الى باب خلاصها: الدولة بغنائمها، والقضم من النظام الإقتصادي بإفساده. فراكم أمراء الحرب، مختزلو الطائفة والمذهب والقبيلة، مكتسبا تلو آخر حتى صاروا وطوائفهم ومكتسباتهم واحداً، من ثوابت نظام الطائف. وفلحوا في أن صوّروا أي تصحيح مسّاً مباشراً بالمصلحة العليا للطائفة، حصيلة الإختزال ودمج الحزب بالمذهب. فكان أن أختلط بالإحتقان، الفسادُ والتكالبُ واستسهالُ سرقة المال العام، حتى حدث الإنفجار.
لكن أيضا لم يفت أمراء الحرب ورعاتهم جعل العنف، سياسيا كان أم جسديا، السبيل الأمضى لمعالجة أخطائهم وشطب الخصوم.
وآليات العنف لإسقاط انظمة أو مشاريع سياسية، حال تاصلّت على امتداد الذاكرة البشرية، وخصوصا المسيحية منها. وهو ما لحظه البابا فرنسيس في رسالته البابوية العامة (3 تشرين الاول 2020) Fratelli tutti (كلّنا إخوة)، حين أنهى الفصل السابع منها، محذرا وداعيا المسيحيين الى الإقتداء بـ "يسوع المسيح الذي قال بحزم أمام تلميذٍ أثاره العنف: "إِغمِدْ سيفَك، فكُلُّ مَن يَأخُذُ بِالسَّيف بِالسَّيفِ يَهلِك" (متى 26، 52).
في أيامنا هذه السيوف المشرعة ما اكثرها، والهلاك من حولنا على الغارب.
أستذكر،على سيرة توسّل السياسة العنف، عهد الإرهاب La Terreur (5 أيلول 1793 - 28 حزيران 1794). ربما كان أول أعمال العنف المنظم الموثقة. أطلقه المؤرخون على فترة ترهيب واسع شهدتها فرنسا بعد اندلاع الثورة الفرنسية (تلك التي غذاها اليهود لإسقاط تأثير الكنيسة الكاثوليكية في الحكم) بفعل الصراع بين الفصائل السياسية المتناحرة من الجيروندين واليعاقبة.
إتسمت فرنسا في تلك المرحلة العصيبة، بأحكام الإعدام الجماعية لكل من جُعل من "أعداء الثورة". أحصي رسميا قتل 16594 شخصا، من بينهم 2639 في باريس. عنف قاده، يا للمفارقة، أبرز مفكري تلك المرحلة، برتراند بارر وماكسميليان روبسبيار.
أستذكر لإسقاط هذا النهج الدموي على دول كثيرة شهدت عنفا منظما لتغيير حالة او مشروع او نظام، من اغتيال جون كنيدي، الى دومينو أميركا الجنوبية، مرورا بتحولات الإسلام السياسي بفرعيه الشيعي والسني ف العام نفسه (1979)، لأنتهي بلبنان. ولا ضرورة للتذكير بما ابدعت أحزابنا من أعمال عنفية وجرمية بالسيف والإفساد، في الحرب، ولاحقا في السلم.
بالعنف، تغيّرت انظمة كثيرة، حينا بالعمل تحت مظلة القانون الدولي (مجلس الامن) رغم أنه يبقى عنفا حتى لو شرعته أمم، وأحيانا كثيرة بقرار دولتي لا شرعية له سوى قدرة المسؤول على اتخاذ القرار العنفي وتنفيذه.
وبالعنف أيضا، يُشطب مشروع سياسي بإغتيال رمزه جسديا (رفيق الحريري نموذجا)، ولكن أيضا معنويا. العنف لم يعد حكرا الجسدي منه. فحروب الجيل الرابع هي الأكثر خطورة ومضضا، مسرحها الاعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وأضحت علما يدرّس في الاكاديميات، وصناعة قائمة بذاتها تتوسّل الثورة الديجيتالية. تبلغ ذروتها بتحقق إغتيال الشخصية الـcharacter assassination.
العنف اسوأ اعمال السياسة وأكثرها فعالية، يا للأسف. ومكافحته لا تكون سوى بالمساءلة أو ما يعرف بالـaccountability .
المساءلة جرّاء انتهاكات حقوق الإنسان بالقتل، لكن أيضا بالإفساد وسرقة المال العام والسطو على ودائع الناس، وتسخير الرعاع منهم لأعمال القرصنة وتهديم الإنتظام العام وتفتيت فكرة الدولة الوطنية، والكثير من تجاوزات بؤساء نظامنا.
المساءلة مركّب جوهريّ لإقامة سلطة القانون، وحيويّ للمتضرّرين، نحن الشعب.
الـaccountability الآن!
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا