عماد مرمل
بدا القصر الجمهوري أمس الأول مسكوناً بهدوء ما بعد عاصفة «اثنين المواجهة». أجندة الرئيس ميشال عون غير مزدحمة بالمواعيد في نهاية الاسبوع، وبالتالي كانت الفرصة سانحة للقاء مطول معه. على طاولة مكتبه تتجمّع «وثائق» المفاوضات مع الرئيس المكلّف سعد الحريري، من اوراق متبادلة وجداول فارغة تنتظر من يملؤها. لكن ما كان يطفو على سطح الطاولة ليس سوى رأس جبل الجليد. فما الذي خفي تحته، وماذا كشف رئيس الجمهورية عن كواليس مفاوضاته مع الحريري؟
نطمئن بداية الى صحة الرئيس عون بعد تلقّيه اللقاح ضدّ كورونا، فيؤكّد انّ أموره على ما يرام، «لكن لو كنت انا المسؤول المباشر عن تنظيم عملية إعطاء اللقاح لاتبعت التوزيع الأفقي والعامودي، بعيداً من حصره بقاعدة العمر، إذ هناك مجموعات من الشباب تعمل في قطاعات حيوية ومنتجة وتستحق اخذ اللقاح أيضاً».
إتهام باطل
وماذا عن اللقاح الحكومي الذي ينتظره كل اللبنانيين؟
يجيب عون: نام الحريري ثم استفاق على مقاربة حكومية تنسف كل القواعد التي اعتدنا على اعتمادها في تشكيل الحكومات. وبالتالي، فإنّ المعالجة تكون ببساطة في ان يحترم تلك القواعد. هو يعرف انني «محروق» على تشكيل الحكومة، ولكن هذا لا يعني انّ من حقه ان يستغل حرصي الشديد على تأليفها في اسرع وقت كي يفرض عليّ تركيبة مناسبة له وليس للبلد.
ويضيف: للمرة الألف، أؤكّد انني لا اريد الثلث المعطّل، واتهام الحريري لي بانني أسعى اليه هو باطل. وقد سبق لي ان قلت له في احد الاجتماعات بيننا: «لولا هذه الحشرة ولولا الأزمة الحادّة التي نمرّ فيها حالياً ما كنت لأسمح لك اساساً بأن تتهمني بأنني احاول الحصول على الثلث المعطّل. إذ هل يُعقل ان يعطّل رئيس الجمهورية نفسه وعهده، ولو كان كل الوزراء في الحكومة من حصّتي ما كنت لألجأ الى التعطيل. انا من موقعي كرئيس للجمهورية استطيع ان اتدخّل، وبالتالي لا حاجة لي الى الثلث المعطّل».
لست نادماً
ويلفت عون، الى انّه لاحظ انّ الحريري «أصبح أخيراً غريب الأطوار، وكأنني لا أعرفه، على الرغم من انني كنت قد احتضنته وتعاملت معه كوالده، وعندما سألته: ماذا جرى لك؟ أجابني: لقد تغيّرت».
وهل أنت نادمٌ على الدور الذي أدّيته لمعالجة الأزمة الشهيرة التي تعرّض لها الحريري في السعودية؟ يردّ عون: ابداً.. لقد أدّيت واجبي حينها، وأنا افصل بين تلك التجربة وبين ما يحصل اليوم، ولست في وارد تربيح الجميلة.
عدد الوزراء
ويستهجن عون إصرار الحريري على أن يكون عدد الوزراء 18، موضحاً انّه عرض عليه تشكيل الحكومة من 20 او 22 او 24 وزيراً، «وبذلك نحمي التوازنات من دون أن يستحوذ اي طرف على الثلث المعطّل، الّا انّه رفض، وأبلغني بأنّه متمسّك بصيغة الـ18، ما يدعو الى الاستغراب والارتياب».
ويتساءل عون: «ما السرّ في تمسّك الحريري لوحده بهذا الرقم السحري؟ فليقنعني بسبب وجيه حتى أوافق معه. أما وأنّه لم يستطع اقناعي فأنا لا أجد مبرّراً لعدم توسيع الحكومة، الّا اذا كان الجمع بين حقيبتي الخارجية والزراعة، كما طرح في تشكيلته، هو مثال يُحتذى في الاختصاص».
ويؤكّد رئيس الجمهورية في هذا السياق، انّه منفتح على اي مبادرة حلّ تنطلق من مبدأ زيادة عدد الوزراء، لضمان التقيّد بمعياري الإختصاص والتوازن.
نيات مبيتة
ويتابع عون: لم يحترم الحريري أيضاً الأصول في توزيع الحقائب على الطوائف. ومن المعروف انّ هناك حقائب سيادية وخدماتية وعادية، لطالما كانت تُوزع بطريقة دقيقة تراعي التوازنات، الّا انّه لم يراع هذا المبدأ. ولذلك اقترحت عليه جدولاً منهجياً، في اطار التعاون وليس بغرض مصادرة صلاحياته، وقد أرفقته بورقة احترمتُ فيها اللياقات وأصول المخاطبة، حيث كتبتُ عليها، انّ من المستحسن ملء الجدول، ولم أقل إنّه من المفروض ان يملأه.
ويواصل عون سرد بعض تفاصيل اللقاء العاصف الأخير مع الرئيس المكلّف، قائلاً: «لقد كان الحريري منفعلاً، واعتبر انّ الاقتراح الذي أرسلته اليه ينطوي على ثلث معطّل، وهذا مرفوض من قِبله. فشرحت له كيف انّ استنتاجه ليس صحيحاً، بل أكثر من ذلك، توجّهت اليه بالقول: مزّق الورقة وانسَ أمرها. الّا انّه خرج من مكتبي وتلا بياناً تصعيدياً، ومُحضّراً سلفاً، ما يؤشر بوضوح إلى انّه كانت لديه نيّات مضمرة ومبيتة حيالي».
ويستعيد عون التشكيلة التي كشفها الحريري بعد خروجه من الاجتماع معه، متسائلاً: «هل الأسماء التي يريد فرضها هي مؤهّلة حقاً لتحمّل المسؤولية ومواجهة التحدّيات الضخمة؟ إنني اترك الحكم للبنانيين».
تسمية المسيحيين
ويلفت عون، الى انّ إحدى مشكلات الحريري انّه لا يزال يصرّ على تسمية الوزراء المسيحيين، متجاهلاً «انني مؤتمن استثنائياً على اختيار هذه الاسماء، ليس لأنني أريد حصّة لنفسي وإنما لأنّ القوى المسيحية الأساسية غير مشاركة في مفاوضات التشكيل ما اضطرني، من باب المحافظة على الميثاقية وحقوق كل الفئات، ان اتحمّل مسؤولية ضمان صحة تمثيل المكوّن المسيحي، إلى جانب دوري كرئيس للجمهورية ولكل اللبنانيين. في السابق كان الرؤساء المكلّفون هم الذين يتفاوضون مع ممثلي المسيحيين ويتفقون معهم على الأسماء، لكن هذه المرة تغيّرت المعادلة، لأنّ الحريري يرفض الحوار مع «التيار الوطني الحر»، فيما «القوات اللبنانية» وحزب «الكتائب» قرّرا عدم المشاركة، وبالتالي صار لزاماً عليّ ان املأ هذا الفراغ».
ويضيف: «لا يحق للحريري ان ينتقي أسماء الوزراء المسيحيين، حتى لو كان بعضها وارداً في المسودة التي كنت قد وضعتها وضمّت ما يقارب 70 اسماً من جميع الطوائف. وعندما زارني الحريري في إحدى المرات طلب مني ان يلقي نظرة على تلك المسودة التي كانت أمامي، فأعطيته ايّاها بكل نية حسنة، ولم أكن أعلم انّه سيختار منها بالنيابة عني. هذا ليس من حقه، ويعود لي اختيار جميع الوزراء المسيحيين المصنّفين ضمن خانة رئيس الجمهورية للأسباب التي شرحتها، واستطراداً، انا الذي أقرّر أي أسماء سأعتمد من اللائحة التي وضعتها للاستئناس، أو من خارجها، وليس الحريري من ينوب عني في هذه المهمّة. ثم يُفترض به ان يقتنع بأنّ حزب الطاشناق مستقل ولا يصح ان يحتسبه من حصّة رئيس الجمهورية».
ومن غرائب الأمور، وفق عون، انّ الحريري يبرّر ما يفعله بحرصه على تشكيل حكومة اختصاصيين، «فيما هو شخصياً لا علاقة له بالاختصاص، اي انّه كرئيس مكلّف يفتقر الى المعيار الذي يشترطه في الوزراء، ومع ذلك تغاضينا عن هذا الخلل لتسهيل التشكيل، فكانت النتيجة أننا رضينا ولم يرض هو».
جبران «فولاذي»
وعن تأثير العلاقة المتدهورة بين الحريري والنائب جبران باسيل على محاولات تشكيل الحكومة، يقول عون: «لو كنا في وضع طبيعي ما كنت لأقبل بأن يتجاهل الحريري رئيس اكبر كتلة نيابية ويرفض الجلوس معه. ما هذه الخفة في التصرّف؟ والأنكى من ذلك، انّه يمتنع عن التحاور مع باسيل ثم يطلب منه ان يمنح الثقة لحكومته. أي معادلة عجيبة هذه؟ إذا كان باسيل غير جدير بنيل ثقتك فكيف تشترط في المقابل ان يعطيك ثقته»؟
ويعتبر عون، انّ الحريري أوجد عداوة غير مبرّرة مع باسيل، الذي لم يتعرّض له بالشخصي بتاتاً، «وأتحدّى ان يكون قد وجّه أي إساءة الى الرئيس المكلّف، وإنما الحريري هو الذي يتهجّم عليه بمناسبة ومن دون مناسبة. وبصراحة، انا متفاجئ كثيراً بهذا العداء الذي لا أجد تفسيراً محلياً له. وعلى كلٍ، جبران «فولاذي» ولا يتأثر بكل الحملات التي يتعرّض لها».
سياحة خارجية
ويستهجن عون كيف أنّ الحريري، وبدل ان يفعل المستحيل لإنجاز التأليف بالاتفاق مع رئيس الجمهورية بعد تذليل العقبات، وضع التكليف في جيبه وراح يتنقل من دولة الى أخرى، ببرودة أعصاب ومن دون تقدير لأهمية الوقت المهدور ولحراجة الظرف الدقيق الذي لا يسمح بترف السياحة الخارجية، «علماً انّ زياراته لم تفضِ الى اي نتيجة إيجابية لمصلحة لبنان، بل لعلّ بعضها مريب». ويتابع: «تصور انّ نحو أربعة ملايين لبناني هم الآن رهائن مزاج الرئيس المكلّف».
وعندما نقول لعون انّ هناك انطباعاً بأنّه يسعى الى إحراج الرئيس المكلّف لإخراجه وإجباره على الاعتذار، ينبري الى النفي القاطع لصحة هذا الانطباع، معتبراً «انّ العكس صحيح، والحريري هو من يحاول ان يُحرجني ليُخرجني عن قواعد التشكيل السليمة، الّا انني لن ارضخ لذلك».
وحين يُسأل عون: لماذا لا تقبل بتشكيلة الحريري كما هي، وتتركه يتحمّل تبعات اختياراته؟ يجيب: «ليس بمقدوري ان أغامر في مسائل مصيرية لا يمكن إخضاعها إلى المجازفة، خصوصاً انّ تجارب الحريري في أكثر من مجال غير مشجعة، ولا أستطيع أن اسلّمه لوحده مصير الوطن، الذي انا مؤتمن على سلامته».
الأمل موجود
لكن، وعلى الرغم من «الصدمة» التي يشعر بها عون حيال سلوك الحريري، الّا انّه لم يُقفل الباب أمام إمكان التفاهم معه، انطلاقاً من قاعدة احترام معايير التوازن والتمثيل والاختصاص في الحكومة، مضيفاً: «على الرغم من كل التعقيدات، لم أفقد الأمل بعد في إمكان تشكيل حكومة برئاسة الحريري، شرط أن يعود إلى احترام بديهيات التأليف. وانا من جهتي مقتنع بأنّ لا عداوات دائمة في السياسة، وانّ المصلحة العامة ينبغي أن تتغلّب في نهاية المطاف على الحسابات الشخصية، وعليه، فإنّ أبواب القصر مفتوحة أمام الرئيس المكلّف متى قرّر ان يحمل إليّ طرحاً واقعياً لنناقشه ونتفاهم عليه وفق مقتضيات الدستور. اما اذا كان يتعذّر عليه أن يفعل ذلك، فيجب أن يحتكم الى ضميره ويبادر الى الاعتذار الشجاع، لأنّ الوضع لا يتحمّل النكايات العبثية او العناد الشخصي، إذ انّ مصير الوطن ومستقبل اللبنانيين على المحك، الأمر الذي يستوجب التحسس بأعلى درجات المسؤولية».
باسيل والرئاسة
وهل صحيح انّك منشغل في تأمين المستقبل السياسي لباسيل، وانّ جزءاً من تعقيدات الملف الحكومي يرتبط بسعيك الى تحسين موقعه في معادلة انتخابات رئاسة الجمهورية؟
يضحك عون، ثم يجيب: «جبران ذكي ونشيط ومجتهد وكفؤ، لكن هذا شيء وانتخابات الرئاسة بعد نحو عام ونصف العام شيء آخر له ظروفه وحساباته في حينه. ما يهمّني الآن ضمان مستقبل اللبنانيين، وهذه أيضاً اولوية جبران. وأنا أريد بعد رحيلي عن هذه الدنيا ان يبكي الناس عليّ وليس على لبنان. أضف إلى ذلك، انني مقتنع بمقولة أحد الفلاسفة الهنود، الذي يعتبر انّه لا يجب بذل جهد استثنائي للوصول، بل دع الأمور تحدث لوحدها وتأخذ مجراها الطبيعي. الصيرورة بمعنى ان تصير هي الأصل، لا الوصولية التي تبتغي الوصول بأي وسيلة وثمن. وانا اعتمدت هذه القاعدة».
وعن ترويج البعض بأنّ باسيل هو رئيس الظل الذي يتحكّم بقرارات القصر، يجيب عون وقد بدت عليه علامات التعجب: «هم يعرفون انّ ما يزعمونه لا يمتّ الى الواقع بصلة. الحقيقة إنّ جبران تلميذي»..
العقوبات الأميركية
ويتوقف عون بامتعاض شديد عند العقوبات الأميركية المفروضة على باسيل: «لقد عاقبوه لأنّه على صداقة مع «حزب الله». هذا خيار اتخذه في داخل وطنه ويتعلق بوطنه، فكيف يجوز لهم ان يعاقبوه لهذا السبب».
العلاقة بالسعودية
ويوضح عون، انّه تجنّب الغوص في تفاصيل الشأن الحكومي وزواريبه مع السفراء الذين زاروه اخيراً، «لأنني لا أحبذ الخوض فيها امامهم». مشيراً الى انّ العلاقة مع السعودية بعد زيارة السفير وليد البخاري الى قصر بعبدا هي الآن عادية.
هذه أخطائي
وما تعليقك على تصنيف البعض لعهدك بأنّه الأسوأ لأنّ كل الأزمات انفجرت خلاله؟
يردّ عون ساخراً: «نعم، أعترف.. انا من استدان مبلغ 90 مليار دولار حتى أفلست الخزينة، وأنا من صنع فيروس كورونا ونشره، وانا من فجّر نيترات الأمونيوم في المرفأ، وانا من امعن في مؤسسات الدولة هدراً وفساداً على امتداد عقود، كنت منفياً خلالها الى فرنسا، وانا من أنشأ الصناديق والمجالس، وانا من أشعل الحرب السورية وأتى بالنازحين الى لبنان، وانا من أدخل «داعش».
ويضيف: «ربما يحملونني المسؤولية لأنني اتخذت القرار باجتثات الإرهابيين من الجرود، ودفعت في اتجاه إقرار مراسيم النفط التي تحمي حقوقنا الطبيعية، وتمسّكت بوضع قانون انتخابي يحقق افضل تمثيل ممكن، وقاتلت لاعتماد الإصلاحات الحيوية وفتح ملفات الفساد وإجراء التدقيق الجنائي الهادف الى معرفة حقائق الإنهيار المالي والاقتصادي.. لقد كان يتوجب عليّ أن لا أفعل كل ذلك حتى يصبح عهدي ناجحاً».
سلامة والدولار
وهل أنت مرتاح الى طريقة تعامل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مع ملف صعود الدولار؟
يجيب عون: «بصراحة، لم أعد مرتاحاً الى سلوك سلامة، وبصراحة أكبر، لقد أصبحت اشعر باستياء كبير جراء السياسات النقدية وبعض التصرفات»..
ومع انّ الصورة بمجملها سوداوية، الّا انّ عون يعرب عن ثقته في أنّه سيستطيع خلال السنة ونصف السنة المتبقية من ولايته إطلاق المشاريع التأسيسية الإصلاحية.