طوني عيسى
عندما كان الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض، خاف كثيرون من احتراق لبنان بنار النزاع الأميركي - الإيراني. ومع وصول الرئيس جو بايدن، يخاف كثيرون من غرق لبنان في الإهمال الأميركي مقابل الدينامية الإيرانية. فالرئيس الجديد يتجنّب إحراق أوراقه في الشرق الأوسط. ولكن، هل هناك سقفٌ للأزمة يصبح عنده التحرُّك الأميركي في لبنان أمراً تلقائياً لتَجنُّب الأسوأ؟
سجّل المتابعون باهتمام بيان السفيرة الأميركية دوروثي شيا في قصر بعبدا. فقد كان مكتوباً، وجرى انتقاء عباراته بدقَّة، وعبَّر عن اهتمام واضح بلبنان، خلافاً للتصوِّر السائد في بعض الأوساط السياسية. وأوحى الحراك الديبلوماسي الأميركي، بالتوازي مع حراكٍ فرنسي وسعودي، أن نظرية «الإهمال» الأميركي ليست في محلّها، أو تجري المبالغة في تقديرها، لسببين:
1 - أنّ الأميركيين لم يهملوا لبنان، حتى عندما اتخذ الرئيس السابق باراك أوباما قراره بوقف الانخراط المباشر في أزمات الشرق الأوسط. وموقع لبنان يحظى بأهمية جيوسياسية لا يمكن لواشنطن تجاهلها.
2 - يستحيل منطقياً أن يسحب الأميركيون أيديهم من لبنان ما دام جزءاً من نزاع المحاور والمصالح بين إيران من جهة، وكل من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والعرب وإسرائيل من جهة أخرى.
فسواء كانت العلاقات الأميركية - الإيرانية مقبلة على اشتباك أو على فكّ اشتباك، سيكون لبنان ساحةً وصندوق بريد. وسيكون «حزب الله» في قلب الأزمة. وفيما ترتسم ملامح المرحلة المقبلة من العلاقات بين واشنطن وطهران، جاء بيان السفيرة واضحاً في تحديد سقف للحكومة العتيدة: ممنوع أن تقع السلطة تحت سيطرة «الحزب».
ولكن، أي صفقة قد يتوصّل إليها الأميركيون والإيرانيون حول مجمل المسائل العالقة، بما في ذلك دور «حزب الله»، ستتم ترجمتها في لبنان. ولذلك، يترقَّب الجميع مسار الملف الإيراني ليعرفوا إلى أين سيتّجه لبنان في المرحلة الآتية.
في واشنطن، لم يظهر جواب عن السؤال: هل سينقلب بايدن على نهج ترامب في ما يتعلق بالملف الإيراني؟
بعض الخبراء في السياسة الأميركية يقول: «على العكس. فقد كان ترامب يهدِّد كثيراً وينفّذ قليلاً. وأما بايدن فيهدّد قليلاً لكنه سينفّذ كثيراً، خصوصاً أن الملف الإيراني، في السياسة الخارجية الأميركية، هو واحدٌ من ملفات قليلة تحظى بتوافق الجمهوريين والديموقراطيين.
منذ أن تولّى بايدن مقاليد الحكم في كانون الثاني الفائت، والكونغرس الأميركي غارق في سجالات ساخنة ليبلور الاتجاه: هل ستعود واشنطن إلى سياسة «الضغط الأقصى» التي مارسها ترامب تجاه إيران، أم ستختار إمرار «تسوية على مضض»، ما يتيح لها التوجُّه نحو الملفات الأكثر صعوبة كالصين وروسيا؟
حتى الآن، استنتجت إدارة بايدن أن الولايات المتحدة تغرق في التجاذبات بين المتشدّدين والمعتدلين تجاه الملف الإيراني، فيما طهران تربح الوقت وتدعم أوراقها.
كذلك استنتجت أن إيران تستغلّ ثغرة انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي لتبرير التنصّل من التزاماتها، وهي تتحرّك سريعاً في مسار التخصيب. وقد باتت على مقربة من إنتاج رؤوس نووية لصواريخها البالستية. كما تُعزِّز تسلُّحها وحضور المجموعات العاملة معها في الشرق الأوسط.
المزاج العام في واشنطن يتحوّل أكثر تشدداً تجاه إيران، يوماً بعد يوم. ففي الأيام الأولى من ولاية بايدن، كانت النقمة على ترامب قد بلغت ذروتها داخل الولايات المتحدة، خصوصاً بعد الهجوم على مبنى الكابيتول. وشاع مناخ عام من العداء تجاهه، حتى داخل الحزب الجمهوري. ولذلك، تراجعت الثقة بخياراته الداخلية والخارجية عموماً، بما فيها الانسحاب من اتفاق فيينا 2015.
ولم يكد يدخل بايدن إلى البيت الأبيض حتى سارع 150 نائباً (من أصل 435 يتألف منهم أعضاء مجلس النواب) إلى توجيه رسالة إليه تطالبه بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، والتراجع عن الشروط القاسية التي فرضتها إدارة ترامب عليها. وفعلاً، سعى بايدن إلى فتح الباب لطهران لكي تبدي ليونة في 3 ملفات: النووي والصواريخ البالستية والطموحات التوسعية في دول الجوار عبر المجموعات المسلّحة العاملة تحت لوائها، ومنها «حزب الله».
ولكن، في المقابل، لم يتنازل الإيرانيون، بل اشترطوا عودة واشنطن إلى الاتفاق قبل الجلوس إلى الطاولة. كذلك واصلت طهران تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 %. وثمة تقديرات بأنها رفعت مخزونها في الأشهر الثلاثة الفائتة من 2.4 طن إلى 3 أطنان، فيما الاتفاق يضبط الكمية عند سقف 202.8 كلغ.
هذا التشدّد الإيراني أعاد تعويم التشدّد تدريجاً في واشنطن. وفي مطلع آذار الجاري، تحرّك الكونغرس في مبادرة معاكسة شارك فيها الحزب الديموقراطي على قدم المساواة مع الحزب الجمهوري.
فقد وجّه 140 نائباً، موزَّعين مناصفةً بين الحزبين، رسالة إلى وزير الخارجية أنطوني بلينكن يدعونه فيها إلى المضيّ في النهج المتشدّد مع إيران، ويطالبون بتجنّب العودة «بشكل أعمى» إلى الاتفاق النووي، وبـ»ردع وكلاء إيران في الشرق الأوسط عن القيام بأي عمل ضد إسرائيل».
وهذا المسار استُكمل قبل يومين، عندما وجّه 43 عضواً في مجلس الشيوخ، من الحزبين أيضاً، رسالة إلى بايدن يدعون فيها إلى مواجهة إيران. وجاء فيها أن «الديموقراطيين والجمهوريين ربما يختلفون تكتيكياً، لكنهم متّحدون على وقف برنامج إيران النووي وأنشطتها الخبيثة». وحملت الرسالة تواقيع شخصيات بارزة وقريبة من بايدن.
في ضوء هذه الضغوط داخل الإدارة الأميركية، ثمة مَن يعتقد أن الملف الأميركي - الإيراني سيكون مقبلاً على تطورات مهمّة في المدى المنظور، وربما تكون ساخنة. وفي أحسن الحالات، يمكن هذه السخونة أن تؤدي إلى ولادة تسوية. ولكن، في الحالات الأسوأ، ستتحول حرب استنزاف على خريطة الشرق الأوسط.
وأياً يكن السيناريو، ستدخل قوى إقليمية عدة على الخط، وأبرزها إسرائيل. وفي هذه الحال، يصبح مشروعاً طرح السؤال: هل ستحرص الولايات المتحدة، ومعها فرنسا والسعوديون وآخرون، على انتشال لبنان الضعيف، في اللحظات التي سيشرف فيها على الغرق حتى الاختناق؟