ماذا يبتغي السياسيون من الحكم؟
ماذا يبتغي السياسيون من الحكم؟

خاص - Sunday, March 21, 2021 11:41:00 AM

النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس

 

بُعَيْدَ إذاعة الحلقة الماضية من "ناقوس في أحد" عبر "صوت كل لبنان"، والتي نشرها هذا الموقع أيضًا، فاجأني الأخ الكريم الحاج الأستاذ حامد الخفاف، وكيل آية الله العظمى السيد علي السيستاني في لبنان، باتصال هاتفي يشيد فيه بمضمون "الناقوس" الأخير، الذي وصل إليه، كما قال لي، من لَدُنْ صديقٍ له، هو وزير سابق في العراق ومستشار حاليٌّ لفخامة الرئيس برهم صالح، وأخبرني أيضًا أنهما كليهما حظيا بلقاء البابا فرنسيس في العراق. ولقد علمتُ فيما بعد أنّ الزميل العزيز الدكتور أمين صليبا هو الذي أرسل النصّ الصوتي لصديقه المستشار الدكتور علي يوسف شكري الذي تكرّم وهاتفني منذ يومين وأسبغ عليّ من لطفه ما يفيض كثيرًا عن حقي، فبِتُّ بهذا، متدرِّعًا بما آمنت، أن الرأي المخلص كحبة الحنطة، لو بذرتَها في الريح، لعادَت إليك سنابل ذهب من حيث لا تدري ولا تتوقع.

أشكر الثلاثة على ذوقهم وحصافتهم وأستمد منهم تحفيزًا على الاستمرار، فربَّ دقائق وفيّة للمستمعين تلامس المساحات الحميمة في النفوس، وتشكّل مع سواها تراكمًا وترسيبًا في التضاريس، ورحلة لا تُحدّ في فوالق الجيولوجيا الأرضية والمعنوية. وعليه فإنني لم أجد ما أجيب معالي المستشار شكري بما هو أصدق من شعر أبي فراس الذي رسخه ناظم الغزالي في الوجدان العراقي والعربي إذ يقول:

أيا جارتا.... لو تعلمين بحالي....

وأضيف إن دولة العراق تكاد تنفرد عن بقية الدول العربية كلّها بأن ثرواتها المتكاملة مكنونة في جغرافيا خصبة بالسكان والحضارات والتاريخ والخبرات والثقافة والجامعات والثروات المعدنية والزراعية والمائية، وبالحيوية والشعر والمرجعيات وهذا ما تجسّد في قيمة الدينار التي كانت تفوق قيمة الجنيه الاسترليني، وفي اقتصاد كان يؤهّلها لأن تكون من أقوى الدول وأغزرها إنتاجاً وأرحبها خيراً، وأنفعها للعروبة.

معاذ النوى، يا معالي المستشار إذ أنقل إلى ديناركم الذي أصبح كل ألفٍ ونصف الألف منه يساوي اليوم دولاراً واحدًا، هموم ليرتنا التي ربط قيمتَها قانونُ النقد والتسليف باحتياطي الذهب، فكانت تتهادى في أسواق القطع كالغادة الهيفاء، وتتجول في البورصات متباهية ببريقها على زميلتها السورية التي كانت تعتمد على وفرة المحصولين الزراعي والصناعي.

كلّ منا أولى من أخيه بالدمع مقلة، لأن هذا الصك الساحر، الذي كان وسيلة الفقير إلى الطعام، وحصَّالة المتوسط للأيام السود، ومباهاة الثري في عالم الجاه، صار وثيقة دامغة على حقارة السياسة التي بعد أن انتهت من استنزاف المرافق، جففت جيوب الناس من ندى عرق الجبين.

أخذتني ذاكرتي إلى فيلم مصري قديم ينشد فيه المطرب سعد عبد الوهاب أغنية مطلعها: "يا سعادة البيه.. يا جنيه.."

وها نحن نبكي على أنغام المقام العراقي الحزين والموال اللبناني والسوري تعاسة الليرتين والدينار، دون أن تفارقنا فكرة غريبة، وهي أن مقياس ملاءة عملاتنا مربوط بالعملة الأجنبية التي غذاها الحكام بما زجوا فيها من موارد بلادنا التي نهبوها.

أعود إلى لبنان فأسأل: ماذا يبتغي السياسيون من الحكم؟ أتنفيذَ برامجهم الائمانية والإصلاحية في حين يذكّرنا أذكياؤهم بأن جدودنا لم يعرفوا الكهرباء فلسنا إذًا بحاجة إليها؟ وهنا أفتح حاشية لأروي نكتة قضائية متداولة مفادها أن ثلاثة شهود مثلوا أمام القاضي للإدلاء بأقوال تفيد القضية وتنير التحقيق، فسألهم عن أسمائهم، فكان الأول يدعى مصباح، والثاني قنديل، والثالثة ثريا، فضحك القاضي وقال:" أنتم نوّرتم المحكمة"، وعليه فكثير على اللبنانيين أن يتناوب مصباح وقنديل وثريا على وزارة الطاقة فيعمّ النور بأسمائهم وطلعاتهم، من غير حاجة لتوليد الكهرباء حتى لو دامت العتمة إلى ما شاء الله. أم تراهم يعدّون العدّة لقيادة الجماهير إلى القدس، في حين يستبيح الصهاينة كل يوم البحر والجو والبر، وآخر ما تبقى من أغاني"أخي جاوز الظالمون المدى، وراجعون وزهرة المدائن"؟ أم لعلهم ما زالوا في سباق المخاتير للحفاظ على جاههم، فأي جاه بقي لهؤلاء وكل منهم يغطي وجهه بكِمامة، لا تفاديًا للكورونا، بل بغرض التنكر والاختباء من الناس، كما يحدث في عيد المسخرة أي الكرنفال.

قد لا يخشون الكورونا وهم في بروج مشيدة، بل هم فعلوا كما فعل بطل رواية نجيب محفوظ (ملحمة الحرافيش)، عندما ظهرت نذر الطاعون فانتبذ وعائلته مكاناً قصياً، فحاز لقب الناجي وذلك في محاكاة فنية رائعة لقصة سيدنا نوح الذي رأى مقدمات الطوفان، فعمّر فلكه المشحون ونأى به عن السيل الجارف.

يا أسيادنا أهل الحكم يا من تتحكمون بأمننا ولقمتنا ومستقبل أولادنا؛ يا أهل النظام، وأهل الظلم والظلام لن تجدوا متراً مربعاً من الأرض يأويكم من الطوفان وستنبذكم الأفلاك، وستحفظ في المتاحف ورقة الليرة اللبنانية كوثيقة تاريخية تثبت تفاهتكم وجرائمكم وتردي قيمتكم.

يختم أبو فراس قصيدته بالقول: "ولكن دمعي في الحوادث غالِ". أستأذنه وأضيف: وكذلك رغيف الخبز أصبح غاليًا جدًّا...

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني