خالد أبو شقرا
وكأن لا يكفي ما تعانيه السلطة من مرض "قصر النظر"، حتى فتك "الحَوَل" بما تبقى من "عينيها". عجزها، لم يعد قاصراً على الفشل في معالجة مشكلة سعر الصرف، بل تخطاه إلى التصويب بعكس اتجاه الهدف. فـ"تكرار" ملاحقة الصرافين الشرعيين، والمتداولين بالدولار، المعرّف عنهم "بتجار الشنطة"، لم "يعلّمها" فشل التجربة. إذ إن الهدف على ما يبدو ليس إيجاد الحل، إنما "كبش الفداء".
وضع الملامة على الصرافين، سواء كانوا شرعيين أم غير شرعيين، في ارتفاع سعر الصرف يعود إلى بداية الإنهيار في العام 2019. والإتهام بالتلاعب الذي وجه لهم لأول مرة بعد نحو شهر على ثورة 17 تشرين عندما ارتفع سعر الصرف إلى 2000 ليرة، لم يلبث أن تحول إلى ملاحقات قانونية مطلع العام 2020. سيناريو الإتهام والملاحقة ومن بعدهما اعتِكاف الصرافين والإضراب، تكرر في شباط وآذار من العام الماضي، وتُوّج اعتقالات بالجملة في شهر نيسان، طالت النقيب ونائبه ونحو 45 صرافاً. من بعدها أُجبر مصرف لبنان على ضخ الدولار لصرافين (ألف) لتأمين احتياجات الأقساط الخارجية والعمالة الأجنبية وحاجات التجار، بمحاولة للجم الإرتفاع. إلا ان فشل هذه التجربة المترافقة مع تراجع قدرة "المركزي" على التدخل، نتج عنها اعتراف شبه رسمي في أيلول العام 2020 بسعر السوق الموازية الذي يحدده الصرافون بناء على العرض والطلب. ليأتي بعد كل هذه السردية قرار وزارة المالية رقم 893/1 في كانون الاول 2020 بالزام المستوردين تسجيل قيمة الفاتورة بحسب سعر كلفة الدولار يوم الشراء. ليشرّع بذلك سعر الصرف في السوق الموازية من أعلى سلطة مالية.
محاولة صرف النظر
هذه التطورات الدراماتيكية لم تفشل في الحد من تفلّت سعر الصرف فحسب، بل كان لها دور في ارتفاعه أكثر، حيث كان سعر الدولار يرتفع بعد كل حملة مداهمات وإقفال نتيجة خوف المواطنين وازدياد الطلب عليه. وما يجري اليوم لا ينفصل عن "محاولة السلطة الحالية صرف النظر عن صلب المشكلة، ووضعها في غير مكانها الحقيقي"، يقول مدير شركة مكتّف لتحويل وشحن الأموال ميشال مكتّف، "فمرّة تُحمّل المسؤولية للصرافين ومرة للمنصات ومرة لحاكم مصرف لبنان، فيما الحقيقة هي أن هذه المنظومة السياسية الممعنة في اللاإصلاح والفساد منذ سنوات، هي من أوصل البلد إلى ما هو عليه اليوم".
بعد هامش الحرية الذي أعطي للسوق الموازية في تحديد سعر الصرف، يصبح من غير المنطقي اتهام الصرافين بالتلاعب وملاحقتهم إذا ارتفع سعر صرف الدولار. فهل كان سعر 9000 ليرة مقابل الدولار مقبولاً وليس مضراً بالاقتصاد على سبيل المثال؟ لو كانت الليرة بخير أو كان هناك عرض من العملة الصعبة يوازي الطلب، لما كان لسعر الصرف أن يرتفع. إنما في ظل تجفيف كل مصادر الدولار واقتصار المعروض منه على صرف المواطنين بالقطارة لما ادخروه في منازلهم أو ما يأتيهم من المغتربين، مقابل تسجيل الصرافين ازدياداً كبيراً في الطلب، يصبح ارتفاع سعر الصرف أمراً حتمياً، ومن دون أي سقف. وعلى الرغم من عدم تبرئة مكتّف بعض الصرافين من إمكانية التلاعب بالدولار، والمشاركة في تدهور سعر صرف الليرة، إلا ان "الاعتقاد بان ملاحقتهم وتوقيفهم سيخفض سعر الصرف فهو خاطئ. وواهم كل من يظن ان بامكان الليرة أن تستعيد جزءاً من قيمتها في ظل وجود هذه الطبقة الحاكمة". فهذه السلطة خسرت، بحسب مكتّف، "ثقة مواطنيها في الداخل، وأصبحت تمثل عائقاً حقيقياً امام أي مساعدة ممكن أن تُقدم إلى لبنان من الخارج".
أوراق "مونوبولي"
لتصويب النقاش ووضعه في إطاره الصحيح فان انهيار سعر الصرف ليس مرتبطاً بعدم قدرة الصرافين على تأمين الدولار، "فهذا ليس عملهم"، بحسب مكتّف. "فالصراف ليس منتجاً للدولار، إنما مُبادلاً له. وضخ العملة الأجنبية بالأسواق وتمويل قطاعات التجارة والإنتاج يبقى مسؤولية القطاع المصرفي عبر تحويل الأموال إلى الخارج من حسابات الأفراد والشركات، أو من خلال فتح الاعتمادات وأخذ التسهيلات المصرفية. هذا في الاقتصاد السليم، أمّا محاولة خلق نموذج هجين غير موجود في أي بلد في العالم وتحميله مسؤولية الانهيار، فهو أمر غير مفهوم ويساهم بتعميق الأزمة وتعقيدها أكثر". فانعدام الثقة بالدولة وبالقطاع المصرفي حوّل الليرة إلى "عملة مونوبولي"، برأي مكتّف. "لا احد يريد التداول بها. والكل مستعد للتخلي عنها مهما كان الثمن مرتفعاً". وبحسب ما يلاحظ، فان سلوك المواطنين سواء كانوا من كبار المودعين أم المتوسطين أو الصغار أصبح يتلخص بسحب ما يستطيعون من الودائع من المصارف على سعر 3900 ليرة والشراء بقيمتها الدولار من السوق الموازية على سعر 12 ألف ليرة أو حتى أكثر. وهذا ما يمثل برأي مكتّف "فقداناً تاماً للثقة بالعملة الوطنية ومسبباً أساسياً لاستمرار انهيارها مقابل الدولار".
إعادة تكوين السلطة
بموازاة المطالبة باعادة تكوين الودائع وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، فان المطلوب اليوم، من وجهة نظر مكتّف، "إعادة تكوين الطبقة السياسية". الأمر الذي يفتح المجال أمام إمكانية تدفق الرساميل ودخول مستثمرين جدد إلى القطاع المصرفي وغيره من القطاعات. ويصبح بامكان المصارف التفاوض مع المودعين في المستقبل على كيفية تقسيط الودائع. كأن تعيد 50 في المئة بالدولار النقدي في حال أراد المودع التسديد الفوري أو 70 و80 في المئة بعد 5 سنوات. هذا الأمر لا يعني عقلنة "الهيركات" فحسب، إنما تحسين موقف المصارف وإمكانية استعادة دورها كجاذب للرساميل من الداخل والخارج، وكممولة للاقتصاد ومحفزة للدورة الانتاجية. "لكن طالما هذه العملية لم تتم. والاصرار ما زال قائماً من الطبقتين السياسية والنقدية على اتباع السياسات القديمة، التي لم ولن توصل إلا إلى الخراب، فان لا مجال للحد من انهيار الليرة"، يقول مكتّف. "فالتجربة أظهرت ان محاولة السيطرة على سعر الصرف بالأساليب البوليسية والمخابراتية يخلق ردة فعل عكسية ويرفع سعر الدولار أكثر". فالمواطنون يفقدون المرجع لتحديد السعر، ويطلبون السعر الأعلى في هذه الحالة. كما ان المتداولين في القنوات الخلفية يتحكمون بالسوق ويرفعون السعر على ذوقهم".
إن لم تبنِ الدولة الثقة، فعبثاً يتعب البناؤون إصلاح الإقتصاد ووقف تدهور الليرة. وإن لم تتمّ استعادة هيكلة الدولة، بوصفها المستثمر الأكبر المتخلف عن تسديد ديونه، فان كل المحاولات للجم سعر الصرف ستبوء بالفشل.