طوني عيسى
الجولة الجديدة على وشك الانتهاء. مجدداً، الأقوياء في السلطة هزَموا الضعفاء في الشارع. ولكن أيضاً، «الثورة» تهزم نفسها بنفسها، كما فعلت سابقاً. وإذا لم يَطرأ عنصر مفاجئ، فـ»الثورة» في طريقها إلى خسارة الحرب!
لم ينتظر «حزب الله» وحلفاؤه اندلاع الجولة الجديدة من الحراك الاعتراضي، ليفاجئهم فينحَشروا في موقع ردّ الفعل، كما في 17 تشرين الأول 2017.
لقد جهَّزوا العدّة لإحباط الحراك باكراً، وفي أيديهم أوراق قوية جداً: سلطةُ الدولة ومؤسساتها وأجهزتِها، ماكيناتُهم الخاصة في السياسة والمال والأمن، والتغطية الصلبة والمتماسكة من الحلفاء الإقليميين.
في الفترة الأولى من الانتفاضة، كانت القوى النافذة في السلطة محشورة فعلاً. ولم ينجح تقديم حكومة الرئيس سعد الحريري «كبش محرقة» في تنفيس الغضب. لكنّ حكومة الرئيس حسّان دياب، بتركيبتها السياسية المموَّهة وبوعود الـ100 يوم للإنقاذ، نفَّست الشارع. واندفع كثير من «الثوار» إلى المساومات وحسابات الربح والخسارة.
ليس خافياً أن نقاشاً دار داخل «الثورة»، منذ اللحظة الأولى، حول الآتي: هل علينا توحيد البرنامج وآليات التنفيذ والقيادة؟
أصرّ البعض، منذ ذلك الحين، على أنّ «ثورتنا ليست حزباً سياسياً»، وتميِّزها ليبرالية الآراء والانتماءات الفكرية والسياسية: من الفكر العلماني أو المدني الذي يطالب بالتحديث وإصلاح النظام إلى الفكر الماركسي الداعي إلى تغيير جذري للنظام. وطبعاً، العقدة الأساس بقيت في النظرة إلى «حزب الله» ودوره وسلاحه.
في الخلاصة، وتجنباً للتصادم بين أجنحة «الثورة»، فضّل الجميع اعتماد صيغةٍ ملتبسة تقضي بأن تعبّر كل شريحة «ثورية» عن نفسها واعتراضاتها وطروحاتها بالطريقة التي تريد. فنشأت «لامركزية ثورية» في كل مدينة وشارع وزاروب.
هذا الخيار كان نقطة قوة لـ»الثورة» في جانبٍ منه، إذ منحها طابعاً تعددياً، وبه جذبت جماهير متباعدة سياسياً وفكرياً ومتنوعة طائفياً ومذهبياً. لكنه واقعياً كان السبب الأساسي لفشلها، إذ تسبَّب في إضاعة البوصلة وتضعضع آليات التحرُّك.
لو بذلت شرائح «الثورة» جهداً لإعداد قيادة موحَّدة، ببرنامج عملٍ موحَّد، وبآليات وأهداف محدَّدة، لما استطاع أعداؤها أن يخرقوها ويشتِّتوا صفوفها ويُفشلوا حركتها. ولكن، يستحيل تحقيق هذه الوحدة، خصوصاً عندما يصل الأمر إلى مسألة الخيارات السياسية. ولذلك، تُرِكت «الثورة» للعمل الاعتباطي فحصدت نتيجة كانت متوقعة.
بضياع البوصلة انحدر الحراك الشعبي من رتبة «ثورة» إلى «انتفاضة» ثم إلى مجرَّد «حراكٍ اعتراضي». وقدَّم أركان الحراك هديّة ثمينة إلى أركان السلطة.
اللافت هو أنّ شرارة هزيلة جداً أشعلت 17 تشرين هي ضريبة 6 سنتات على «الواتساب». وللمناسبة هي لم تكن قابلة للتطبيق عملياً. ولكن، بعد ذلك، وقعت أحداث صاعقة وصدمات ونكبات مريعة، ولم يتحرَّك الشارع: إنكشاف عمليات نهب الدولة، ضياع ودائع الناس، انهيار الليرة والرواتب، مجزرة المرفأ، والكثير غير ذلك.
لا يمكن إنكار تأثير معيَّن لـ»كورونا» في تعثّر الحراك، لكنه ليس السبب الأساسي. إنها الضربات التي تلقتها «الثورة» منذ 17 تشرين في عمودها الفقري، فعطّلت جهوزيتها معنوياً ومادياً.
وجاء نداء البطريرك بشارة الراعي، «لا تسكتوا»، تزامناً مع صدمة صعود الدولار فوق حاجز الـ10 آلاف ليرة والدخول في عملية رفع دعم شاملة، ليشكل حافزاً مضاعفاً لانتفاضة لا تتوقف إلا بتحقيق المطالب. ولكن، سرعان ما ظهرت في الحراك علامات التشقّق والتعثّر.
نزلت إلى الشارع شرائح من «الثورة» وبقيت أخرى تتفرّج أو تترصَّد، لأن لها وجهات نظر أخرى، أو مصالح أخرى. فيما انقضّت قوى السلطة على «الثوار»، وبدأت تنفيذ خطة مُحْكَمة لاستيعاب حراكهم، استخدمت فيها السياسة والأمن والإعلام أيضاً. وعندما نزل الخصوم السياسيون إلى الشارع، تعرضوا للتخوين والاتهامات بالتخريب. وفي النتيجة، تضعضع الحراك الشعبي اليوم، كما في مرات سابقة.
الأقوياء في السلطة عرفوا كيف يواجهون الحراك الاعتراضي ويحبطونه. هذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً هو أن هذه الثورة وافقت مسبقاً على أن تكون عاجزة، لأنها رفضت توحيد البرنامج والقيادة وأفسحت المجال لأقوياء السلطة - أو سلطة الأقوياء - لكي يربحوا.
هذا الخلل البنيوي في الانتفاضة يتيح لها في أفضل الأحوال أن تؤدي دوراً ظرفياً في التعبير عن الغضب، وهي فعلت ذلك منذ انطلاقها. ولكنه بالتأكيد يمنعها من تطوير عملها في شكل عملاني حتى تحقيق الأهداف.
وفي هذا الشأن، سُمِع في الأيام الأخيرة مَن يقول: إذا لم يكن بعض المعنيين بـ»الثورة» مستعدين لجدّيةٍ في التعاطي تتناسب وحجم التحدّيات، فمن المناسب أن يكفّوا عن ممارسة لعبة الشارع ويتركوه لـ»الجدّيين فقط». فحرامٌ تعليق الناس بآمالٍ واهية والتلاعب بهم في حقول التجارب المريرة!
في العادة، الثورة تعيش ثم تأكل أبناءها. لكن الحاصل اليوم هو أنّ أبناء الثورة يأكلونها قبل أن تولد. وبات على هؤلاء أن يقرِّروا: إما إنجاحها وإما الفشل. لكن الوقوف في مساحة التأرجح والإرباك سيكون مُكْلفاً جداً للجميع. فما بعد انفراط الثورة سيكون أمراً أصعب منها بكثير.