بدأت تركيا تغيّر من لهجتها نسبيا حيال علاقاتها مع مصر بشكل خاص، لا سيما خلال الأيام الماضية، وذلك عبر رسائل وُصفت بكونها تأتي في إطار المغازلات السياسية المستمرة، على وقع تعرض أنقرة لحالة عزلة في منطقة شرق المتوسط، التي تشهد تحالفات استراتيجيات مهمة تشكل تهديدا للسياسات والتحركات التركية.
ولا تعتبر التصريحات التي أدلى بها المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، عمر جليك، الثلاثاء، بشأن وجود روابط قوية بين القاهرة وأنقرة، هي الأولى من نوعها خلال الشهر الجاري؛ فقد سبقتها عدة تصريحات مماثلة.
وكان آخر تلك، تصريحات وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، بأن البلدين "قد تتفاوضان على ترسيم الحدود (البحرية) إذا سمحت العلاقة بمثل تلك الخطوة"، وسبقتها تصريحات وزير الدفاع خلوصي أكار، التي تناول فيها القيم "التاريخية والثقافية" المشتركة بين البلدين، ملمحا إلى تطورات مختلفة قد تحدث في الأيام المقبلة.
تلك المغازلات المستمرة ينظر إليها بعض المحللين باعتبار أنها قد تكون جزءا من "مراجعات حتمية" قد تلجأ إليها أنقرة بعدما أثبتت التجربة فشل سياسات فرض الأمر الواقع والتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، ومن ثم تسعى لمهادنة محيطها، ممثلا في مصر، لما تشكله من تأثير واسع.
بينما ينظر آخرون إلى تلك الخطوة، باعتبار أنها -طالما لم تكن مقرونة بتصرفات حقيقية على الأرض- مجرد "مناورات سياسية".
مراجعات تركية
أصحاب الاعتقاد الأول يرون أن تركيا شعرت بخطأ استراتيجيتها في التعامل مع دول شرق المتوسط ومصر تحديدا، ذلك أنها "كانت تظن أن محاولة توظيف الإخوان وكذلك استخدام منطق القوة في منطقة شرق المتوسط والدول العربية، وتدخلاتها العسكرية، كفيلة بالضغط على الجانب المصري للاستجابة أو الرضوخ للضغوطات التركية"، طبقا لما يؤكده في تصريحات خاصة لموقع "سكاي نيوز عربية" خبير الشؤون التركية، بشير عبد الفتاح.
ويلفت عبد الفتاح في السياق ذاته، إلى أن "ما حدث عمليا كان على عكس ما كانت تصبو إليه أنقرة من خلال سياساتها في المنطقة، إذ شعرت الآن بعزلة رهيبة شرق المتوسط، في ظل قطيعة عربية من دول مركزية كانت تعتمد على العلاقات الاقتصادية معها".
وعزز تلك العزلة تقارب مصر مع كل من قبرص واليونان، والدخول في تحالفات سياسات واقتصادية وأمنية وعسكرية شرق المتوسط، وتوقيع اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية، مما جعل تركيا في النهاية هي الخاسرة.
وأمام تلك المعطيات، أدركت أنقرة صعوبة الموقف، وهي الآن "تسعى إلى تدارك الأمر، من خلال محاولة تحقيق اختراق في العلاقة مع مصر تحديدا، يساعدها في حلحلة التوتر بينها وبين الدول العربية وقبرص واليونان".
وهذا الأمر -في تصور عبد الفتاح- هو سبب "كثافة العروض التركية (التصريحات الإيجابية تجاه مصر) التي تصدر يوميا الآن من أكثر من مسؤول تركي (..) حتى لا يستمر نزيف الخسائر، وبالتالي بدأت تركيا مراجعة حساباتها".
وردا على سؤال حول ما إن كانت تركيا جادة في تلك "المراجعة"، يلفت الخبير بالشؤون التركية، إلى أن "المراجعة هذه المرة أعتقد بأنها جادة؛ لأن سياسة تركيا فشلت بنسبة كبيرة على غير المتوقع من جانبهم.. وبالتالي تسعى أنقرة لتدارك الموقف قدر المستطاع".
وثمة خطوات عملية مطلوبة لـ "إثبات حسن النية"، يحددها عبد الفتاح إجمالا في "التعامل بإيجابية مع الملفات الخلافية، من بينها ملف الإخوان والتدخلات العسكرية التركية في ليبيا وسوريا والعراق، وحل الإشكاليات العالقة مع دول الخليج وقبرص واليونان، والتوقف عن سياسة "الأمر الواقع"، والالتزام بمبادئ القانون الدولي في شرق المتوسط وغيرها من المناطق، ذلك أن تركيا مطالبة بأن تقيم علاقاتها على أساس من الاحترام المتبادل واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والالتزام بالقانون الدولي".
وتشهد العلاقات المصرية التركية توترا كبيرا منذ يونيو 2013، وتحديدا بعد سقوط حكم تنظيم الإخوان الإرهابي في مصر. ودأب النظام التركي على الهجوم على مصر بشكل متكرر في الفترات السابقة، فيما برزت من آن لآخر تصريحات وصفت بكونها "محاولات للتودد" شهدت تطورات واسعة في الأيام الأخيرة.
مناورة
لكن في المقابل، فإن مستشار مركز الخليج للدراسات، السفير أشرف حربي، يقلل من مدى جدية التصريحات التركية المتكررة حيال سعي أنقرة للتودد إلى مصر، معتبرا أن ذلك الأمر -إن ظل غير مقرون بتصرفات عملية تثبت حسن النية- فقد يكون "للاستهلاك المحلي فقط".
ويضيف حربي في تصريحات خاصة لموقع "سكاي نيوز عربية": "في ضوء الأزمات المتصاعدة في تركيا، وانتقادات المعارضة هناك للحكومة، يُنظر لمثل تلك التصريحات بأنها محاولات للاستهلاك المحلي (..) في مناورة سياسية للتغطية على أزمة سياسية داخلية، من خلال إعلان السعي نحو إحداث نوع من التقارب مع أهم دولة في المنطقة لتحسين العلاقات معها".
ويلفت إلى أن مسؤولين أتراك دأبوا على إصدار تصريحات متضاربة أحيانا، بينما في الوقت الذي تصدر فيه تصريحات حول رغبة تركيا في الحوار، فإن النشاط التركي في شرق المتوسط على سبيل المثال يشكل عملا عدائيا تجاه مصر، موضحا أنه "لا توجد مؤشرات على أي تشاور سياسي بين الجانبين في الفترة الحالية، وإن كانت تركيا تأمل ذلك".
وينظر إلى أي حوار بين القاهرة وأنقرة بأنه "موضوع سابق لأوانه" لجهة وجود العديد من الملفات بالغة الصعوبة، يجب أن يتم حسمها قبل الحديث عن تحسين العلاقات.
ولم تصدر عن الجانب المصري أي تعليقات على محاولات التودد التركية الأخيرة. وسبق وأن علق وزير خارجية مصر سامح شكري، في سبتمبر الماضي، على تصريحات تركية بضرورة عودة التفاهم مع مصر، بقوله: "نحن نرصد الأفعال.. أي حديث غير متوافق مع السياسات يصبح لا أهمية له"، في إشارة إلى حتمية اقتران التصريحات بأفعال وتصرفات عملية.
تصرفات عملية
وفيما يخص الموقف المصري من العلاقات مع تركيا، يقول رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق بالقوات المسلحة المصرية، المستشار بأكاديمية ناصر العسكرية، اللواء نصر سالم، في تصريحات خاصة لموقع "سكاي نيوز عربية"، إن "مصر لا تحمل أي ضغينة ولا عداء لأحد إلا بقدر ما يحمله هو أو ما يقوم به من أي أعمال تضر بأمننا القومي والأمن القومي العربي بشكل عام".
ولفت إلى أن "تركيا إن أرادت أن تتغزل في مصر أو تحاول الاقتراب منها، فالقاهرة ترحب بذلك، ولا تغلق الباب أمام أي محاولات مماثلة، لكن عبر الأبواب الشرعية".
ويتطرق سالم إلى الأنشطة التركية "المعادية" في كل من سوريا والعراق وليبيا، موضحا أن "تلك الأنشطة ومن بينها تمويل أو احتضان الإرهاب والعناصر الخارجة، وما إلى ذلك من أعمال من هذا القبيل، جميعها لابد أن تتوقف عنها تركيا".
وتابع: "نحن نريد أفعالا على الأرض، ولا يجب أن تكون تلك التصريحات خادعة"، مشددا على أهمية أن تكون مقرونة بتصرفات عملية.