استقبل البابا فرنسيس في القصر الرسولي بالفاتيكان، يوم الاثنين الماضي، أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي لتبادل التهاني بحلول العام الجديد، وعرض البابا في خطابه المسهب، التطورات الراهنة على الساحة الدولية. وخصص مساحة واسعة في كلمته للوضع اللبناني الذي خصصت له الصحف الإيطالية بدورها مساحة تذكر.
وعن كلمة الحبر الأعظم عن الوضع في لبنان والأوضاع الراهنة في ظل الرئاسة الأميركية الجديدة ورؤية الكرسي الرسولي للوضع في لبنان، تحدث السفير اللبناني لدى الكرسي الرسولي فريد الياس الخازن لـ"الوكالة الوطنية للإعلام.
وعما تطرقت له بعض الصحف عن أن البابا فرنسيس ادخل على النص موضوع لبنان بشكل ارتجالي، أجاب الخازن: "لا مواقف مرتجلة في الفاتيكان. كلمة البابا السنوية في مطلع العام الجديد يتم الإعداد لها ووضع محاورها قبل وقت من اللقاء العام، وأي تعديلات يتم ادخالها إذا دعت الحاجة. هذه السنة تأجل اللقاء أسبوعين بسبب وعكة صحية ألمت بالبابا. ما جاء في كلمة الحبر الأعظم حول لبنان هذا العام غير معهود، إن لجهة المضمون أو الإسهاب وأيضا بالمقارنة مع ما ورد حول دول أخرى تواجه أوضاعا مأزومة، ولا سيما أن كلام البابا جاء بعد أسابيع من رسالة هامة وجهها إلى اللبنانيين. هذا فضلا عن زيارة الكاردينال بارولين، أمين سر الدولة، ممثلا البابا، إلى لبنان في أيلول الماضي. تجاوز الكلام البابوي العناوين العامة حول لبنان ليصل إلى التفصيل الواضح والصريح".
أضاف: "تناولت كلمة البابا التحديات التي يواجهها العالم، ومنها الوباء والبيئة والفقر والنزوح وحقوق الإنسان والنزاعات المسلحة. وفي ما يخص الشرق الأوسط، تطرق البابا إلى أوضاع المنطقة، وتحديدا في سوريا وليبيا واليمن والعراق والسودان، مشددا على الجوانب الإنسانية لتداعيات الحروب والأزمات، بالاضافة إلى النزاع العربي - الإسرائيلي. إلا أن الحيز الأكبر في الخطاب خصصه للبنان. وفي قراءة موجزة، يمكن الإشارة إلى أربع ركائز مترابطة لكلام البابا عن لبنان: استقرار البلاد، والالتزام المطلوب لهذه الغاية وطنيا ودوليا. الرابط بين الاستقرار والهوية لجهة التعددية والتنوع والتسامح، وما للمسيحيين من دور محوري في النسيج التاريخي والاجتماعي المؤسس للبنان، فضلا عن تداعيات هذا الواقع على الشرق الأوسط، محيط لبنان الإقليمي. كما أن المصطلحات الواردة في كلام البابا لافتة لجهة ارتباطها بالأوضاع الراهنة: الإصلاح، العدالة، المسؤولية، الشفافية، الهوية، وتفادي الإفلاس والأصولية، تداخل الواقع اللبناني مع الأوضاع الإقليمية. بكلام آخر، انه لبنان العيش المشترك الذي قصده البابا ودوره المميز، فيحمل رسالة الحرية والتعددية له ولسواه. وهذا ما يجعل من لبنان أكثر من بلد، حسب ما جاء في رسالة البابا القديس يوحنا بولس الثاني منذ أكثر من ثلاثة عقود".
وعن تطور العلاقة بين الكرسي الرسولي والإدارة الجديدة في الولايات المتحدة، قال السفير اللبناني: "توترت العلاقة في الآونة الأخيرة بين أميركا والفاتيكان اثر زيارة وزير الخارجية السابق مايك بومبيو إلى روما واتخاذه مواقف مناوئة لمسار العلاقات بين الكرسي الرسولي والصين، رغم أنها مسألة راعوية غير مرتبطة بالشأن السياسي. واقتصرت لقاءات بومبيو على المسؤولين الكبار في الفاتيكان ولم يستقبل البابا الوزير الأميركي، لا سيما أن الزيارة أتت أثناء حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية. مع الرئيس بايدن والإدارة الجديدة، ستكون العلاقات مع الفاتيكان أفضل حالا مما كانت عليه في زمن ترامب. وبين الجهتين الكثير من المساحات المشتركة في السياسة الدولية، أبرزها: المقاربة المتعددة الأطراف (Multilateral)، وخصوصا لجهة التعاون مع المنظمات الدولية، إضافة إلى مواجهة التحديات البيئية والصحية، وإيلاء الاهتمام الجدي بالازمات المرتبطة بالهجرة والنزوح والفقر وحقوق الإنسان، والمرونة في التعاطي مع الأزمات داخل الدول وفي ما بينها، بعيدا عن الصدام غير المجدي. وكذلك أيضا في ما يخص تفعيل التقارب مع الاتحاد الاوروبي واتخاذ الإجراءات للحد من التسلح، وفي مقدمها السلاح النووي، كما يدعو الفاتيكان منذ زمن طويل".
أضاف: "هذه الاعتبارات تسهل التواصل بين أميركا والفاتيكان في السياسة الخارجية. وتجدر الإشارة أن البابا فرنسيس والرئيس بايدن سبق أن التقيا في واشنطن والفاتيكان وتعاونا في مسائل تخص أميركا اللاتينية عندما كان بايدن نائبا للرئيس، وهو ملم بالسياسة الخارجية، خلافا لسلفه. وكان بايدن افتتح عهده بقداس في كنيسة كاثوليكية في واشنطن بحضور مسؤولين كبار. واللافت أن بايدن، الملتزم دينيا، وهو الرئيس الكاثوليكي الثاني في أميركا، لم يكن انتماؤه الديني مصدر سجال أو اعتراض، خلافا لما حصل مع انتخاب الرئيس كينيدي في مطلع ستينات القرن الماضي. اما في الشأن الاجتماعي فمواقف بايدن ليبرالية ولا تلاقي دعم المحافظين في أوساط الكنيسة الكاثوليكية في أميركا، وتحديدا بعض أعضاء مجلس الأساقفة. هذا مع العلم أن بايدن نال عددا يزيد على النصف بقليل من أصوات الكاثوليك في الانتخابات الرئاسية. الانتماء الديني للرئيس الأميركي غير مرتبط بالقرار السياسي ومصالح الدولة العليا، وان كانت منطلقات بايدن المبدئية والأخلاقية في عمله وسلوكه تحكمها ثوابت تتلاقى مع توجهات الفاتيكان ومقاربته للشأن العام، خلافا لما كانت عليه الحال مع الرئيس ترامب وسياسته الخارجية الاستنسابية والمتقلبة. باختصار، ديبلوماسية الفاتيكان المرنة والمنفتحة والهادئة هي أكثر تناغما مع توجهات بايدن والإدارة الجديدة".
وتطرق الخازن الى الدور الذي تقوم به السفارة اللبنانية لدى الكرسي الرسولي، فقال: "السفارة على تواصل دائم مع المعنيين في الشأن اللبناني في دوائر الكرسي الرسولي وفي المجامع الرسولية المتخصصة والمؤسسات التابعة للفاتيكان التي تعمل من أجل تعزيز الحوار بين الأديان وفي المجالات الخيرية والإنسانية. بإيجاز، العلاقات مع الفاتيكان وثيقة ، يسودها التعاون والانفتاح والصدق في التعاطي. قداسة البابا يتابع الأوضاع اللبنانية ولا يوفر فرصة لتقديم العون، وهو مطلع على أوضاع البلاد السياسية والدينية عبر العمل الدؤوب الذي تقوم به دوائر الفاتيكان المعنية. ويبقى لبنان النموذج المرتجى في العيش المشترك بنظر الكرسي الرسولي، على رغم التحديات والصعاب".
وعن كيفية تعامل الكرسي الرسولي مع المبادرات التي تطلق من لبنان، قال: "يتعامل الفاتيكان مع المبادرات والمواقف المعلنة في لبنان، ولا سيما منها تلك الصادرة في الآونة الأخيرة عن غبطة البطريرك الراعي، بجدية وانفتاح، وان لم يصدر موقف منها. وتتم مقاربة الأوضاع اللبنانية بحرص شديد على المصلحة العامة بهدف الوصول إلى حلول عملية للأزمات المعقدة. والفاتيكان داعم للمبادرة الفرنسية، أو أي مبادرة قد تساهم في انتشال البلاد من الأوضاع المتردية التي يعاني منها اللبنانيون، أفرادا وجماعات. ولن يوفر جهدا لهذه الغاية في كافة المجالات وبكل الوسائل المتاحة".