شارل جبور
يدرك البطريرك بشارة الراعي انّ ثمّة استحالة في هذا التوقيت السياسي لتلبية دعوته لعقد مؤتمر دولي من أجل لبنان، كما هناك استحالة لوضع إعلانه للحياد حيّز التطبيق، فالموقف المبدئي شيء، وتحقيقه على أرض الواقع شيء مختلف تماماً.
سَقفان حدّدهما البطريرك الراعي في أقل من سنة: السقف الأول يتعلّق بالحياد كمدخل أوحَد للاستقرار، بدليل انه في كل مرة سقط فيها الحياد سقط الاستقرار، ومن دون حياد سيبقى لبنان، ليس فقط مسرحاً للسياسات والأجندات الخارجية، إنما منقسّم من الداخل، لأنّ كل من يتوسّل الخارج سيعمل على توظيفه في الداخل في سياق سياسة الغلبة، وما زال لبنان يعيش منذ العام 1969 فصول التدخلات الخارجية التي يتبدّل فيها اللاعبون، ولكن النتيجة واحدة وهي غياب الدولة والاستقرار، ومن هنا يرتقي الحياد إلى مَصاف السيادة والعيش المشترك.
أمّا السقف الثاني فيتمثّل بالدعوة لعقد مؤتمر دولي بإشراف الأمم المتحدة لإنقاذ لبنان، وذلك في رسالة مثلّثة الأضلع إلى عواصم القرار: الضلع الأول، انّ حلّ الأزمة في لبنان لا يمكن ان يتحقق عن طريق حوار لبناني-لبناني، لأنّ أحد الأسباب الأساسية لهذه الأزمة خارجي وله علاقة بالارتباط العضوي لـ»حزب الله» بإيران، وما لم تعالَج الأزمة مع طهران ودورها في المنطقة ستبقى الأزمة في لبنان تراوح مكانها.
الضلع الثاني، انّ أي حلّ لأزمة المنطقة في ظل الكلام عن هَندسات وتسويات جديدة لا يجب ان يكون أو أن يأتي على حساب لبنان.
الضلع الثالث، انّ أي حلّ للبنان يجب ان يكون برعاية دولية ومن الأمم المتحدة تحديداً، كما السهر الدولي على تنفيذ مضمون هذا المؤتمر، لأنها الرعاية وحدها لا تكفي، وصدور القرارات الدولية وحدها لا يكفي، بدليل انّ هذه القرارات لا تنفّذ وتبقى حبراً على ورق بانتظار الظروف المواتية الكفيلة بتطبيقها.
ويُدرك البطريرك الراعي جيداً استحالة إعلان حياد لبنان، كما استحالة الدعوة إلى مؤتمر دولي، ولكنه يقوم بربط نزاع مُسبق مع المجتمع الدولي كي لا يكون لبنان ورقة تفاوضية تُعطى لهذا أو ذاك كتعويض عن تنازل من هنا او من هناك. وبالتالي، أراد ان يستبِق التسويات الكبرى المحتملة بتحديد الأولويات اللبنانية، وحجز مقعد لبنان على طاولات المفاوضات المرتقبة.
فالأزمة اللبنانية ستبقى تُراوِح، وما لم يطبّق من القرارات الدولية لن يطبّق، والتمسّك بهذه القرارات هو تمسّك مبدئي كالقرارات نفسها التي تحفظ حقّ لبنان مع وقف التنفيذ بانتظار الظروف الخارجية التي تسمح بتنفيذها. وبالتالي، أراد البطريرك في هذا التوقيت بالذات ان يضع حلّ الأزمة اللبنانية في عهدة الأمم المتحدة تحديداً، لأن لا ثقة بأولويات الدول ومصالحها، وموقفه غير موجّه إلى الداخل بقدر ما هو موجّه إلى الخارج ليتحمّل مسؤولياته إزاء القضية اللبنانية.
والدعوة لعقد مؤتمر دولي لا تعني انها ستُلبّى غداً، ولا تعني وضع لبنان تحت الفصل السابع وإرسال قوات دولية إلى لبنان، وهذا كلّه أوهام. وهناك من لا يزال يتوهّم، على رغم التجارب الطويلة المريرة، بالبوليس الدولي والخطوات الدولية العسكرية، وتكفي الدلالة إلى القرار 1701 الذي يطبّق بما يخدم «حزب الله» لا الدولة اللبنانية، والشق المتعلّق بسلاح الميليشيات في القرار 1559 الذي لم ولن يطبّق تنفيذاً لهذا القرار سوى بعد ان تَستوي ظروف التسوية مع طهران على هذا المستوى.
ومن الضرورة التمييز بين أمرين أساسيين: الأمر الأول يتعلق بالتوجه الإلزامي إلى الأمم المتحدة، والتمسك بالشرعية الدولية والقرارات ذات الصلة وإبقاء لبنان تحت المظلة الدولية، وضمان عدم حصول اي تسوية تتناقَض مع سيادة لبنان واستقلاله ودوره.
والأمر الثاني يرتبط بإرادة اللبنانيين الحرة، والتي وحدها القادرة على تحقيق السلام اللبناني، فيما هناك من يَستسهِل الاتّكاء على الخارج من دون ان يحرِّك ساكناً في الداخل او يتحمّل مسؤولياته السياسية، علماً أننا نودّ التذكير بأنّ كل القرارات الدولية، بدءاً من القرار 1559، استندت إلى وثيقة الوفاق الوطني في اتفاق الطائف، أي انها ارتكزت على التسوية التي أبرمت بتفاهم اللبنانيين، ولن نعود إلى خطيئة المجتمع الدولي الذي لم يمارس دوره ومسؤولياته بتطبيق مُندرجات هذه التسوية، إنما لا يجب أيضاً تحميل هذا المجتمع مسؤولية الانقسام اللبناني، والقفز فوق هذا الانقسام بالكلام عن حروب الآخرين على أرض لبنان، وهو كلام في غير محله.
فالحرب لم تندلع في العام 1975 سوى نتيجة الانقسام اللبناني-اللبناني، والخارج لم يستخدم لبنان إلّا بسبب هذا الانقسام، والسلام اللبناني لن يتحقق سوى بتفاهم اللبنانيين، ومن هنا أهمية التكامل بين البُعدين الخارجي لضمان عدم التضحية بلبنان على مذبح التسويات، والبعد الداخلي بمَنع أي تسوية تتعارَض مع المُرتكزات التي أُرسِيَت في تأسيسه وفي ميثاق العام 1943 ووثيقة الوفاق في العام 1989.
وإذا كان لا يجوز إهمال الخارج ودوره، وضرورة تعبئة الدياسبورا اللبنانية خدمةً للقضية اللبنانية، فمِن غير الجائز في المقابل إهمال دور الداخل وتحوّله إلى انتِظارِيّ لتطورات الخارج، فيما المطلوب الجهوزية الداخلية والخارجية في آن معاً لطرح القضية اللبنانية عندما تستوي التسوية الخارجية، لأنه عندما يحين أوان هذه التسوية بتوقيت الخارج لن ينتظر الأخير هذا الطرف اللبناني أو ذاك ليعدّ ملفاته، هذه الملفات التي يجب ان تكون جاهزة ومُعدّة سلفاً استعداداً لأيّ تطور من هذا النوع.
وبالتوازي مع دعوة البطريرك الراعي لعقد مؤتمر دولي، جاء كلام قداسة البابا فرنسيس ليتكامَل مع هذه الدعوة، وكلامه موجّه بدوره إلى عواصم القرار راسِماً 3 خطوط حمر حول 3 أخطار أساسية: خطر الإفلاس وما قد يَنجم عنه من حروب وفوضى وعدم استقرار. وخطر ضياع وضرب الهوية الفريدة للبنان كملتقى للأديان والتعايش الحر والخلّاق في نظام ديموقراطي على قاعدة الشراكة والحرية والمساواة. وخطر زوال الوجود المسيحي او إضعافه، ليس كأقلية، إنما كدور إنساني تفاعلي ساهَمَ مساهمة أساسية في تكوين الشخصية اللبنانية التي تُزاوِج بين المدنية والطوائفية في سياق تجربة حديثة ضمن نظام متطور منفتح على الخارج.
وإذا كان لا يفترض الاستهانة بموقفَي البابا والبطريرك ووَقعِهما على المستوى الدولي الذي من الصعب ان يتجاوز ويقفز فوق مناشدتهما، خصوصاً انّ لبنان يُعتَبر آخر مساحة في الشرق الأوسط للدور الوطني المسيحي الفعّال، فإنّ واشنطن وباريس والرياض ليست في وارد التفريط بسيادة لبنان واستقلاله وتقديمه هديّة لطهران، وفي حال وجد أيّ تساهل في لحظة معينة لسبب معيّن، فإنّه سيُكبَح بابوياً وبطريركياً، ومن هنا أهمية أن يُكبح لبنانياً أيضاً من خلال تَوحُّد الداخل حول رؤية وطنية مشتركة.
فلم يتوجّه البطريرك إلى الأمم المتحدة في هذا التوقيت بالصدفة، ولم يحذِّر قداسة البابا، في كلمته التي كانت الأطوَل حول لبنان، من الأخطار المُحدِقة به عن طريق الصدفة أيضاً، بل لأنّ المنطقة دخلت في مرحلة جديدة ستشهد خلط أوراق وتسويات، وعلى اللبنانيين ان يتحضّروا بدورهم لهذه المرحلة بتَجاوز انقساماتهم وخلافاتهم من أجل منع تهريب او تمرير أي تسوية تتناقض مع الثوابت المؤسِسة للكيان اللبناني.